صاحب طرابلس ويستولى المسلمون على الصليب الأعظم صليب الصلبوت، ويؤسر ملك بيت المقدس وغيره من زعمائهم أمثال مقدم الداوية وريجنالد صاحب الكرك وكان قد أعدّ أسطولا وحاول غزو مكة والمدينة فقتله صلاح الدين بنفسه وعفا عن الباقين. وبلغ من كثرة القتلى والأسرى أن قال أبو شامة:«من شاهد القتلى قال: ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال: ما هناك قتيل» ومما يدل على كثيرة أسراهم أن الأسير منهم كان يباع بثلاثة دنانير.
وحاصر صلاح الدين بيت المقدس بعد نحو ثلاثة أشهر، واستسلم له من فيه من حملة الصليب وأزيلت كل آثارهم من القدس، وفتحت البلدان والقلاع فى فلسطين وجنوبى لبنان أبوابها للبطل العظيم، فاستولى على نابلس وحيفا وعكا وبيروت وصيداء والرملة وبيت جبريل (بئر سبع) وعسقلان وغزة وصفد والكرك والشوبك واللاذقية. وأحيا سقوط القدس فى يد صلاح الدين فكرة الحرب الصليبية من جديد، فحمل الصليب فردريك الأول إمبراطور ألمانيا وفيليب ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وحاصر الأخيران عكا وسقطت فى أيديهما وعاد فيليب إلى فرنسا وظل ريتشارد يقود الجيوش الصليبية حتى سنة ٥٨٨ وعقد صلحا مع صلاح الدين لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر على أن تظل لحملة الصليب المدن الساحلية من صور إلى يافا. وبعد نحو ستة أشهر توفّى صلاح الدين بدمشق وبكاه المسلمون بدموع غزار فى كل مكان. وكان صلاح الدين عادلا ورعا عالما تقيا، حطّ عن ظهور أهل الشام ما كان يبهظهم من الضرائب وملأها بالمدارس والخانقاهات والبيمارستانات وكانت سماحته ونبله فى معاملة حملة الصليب مضرب الأمثال، وكان إلى ذلك بطلا مغوارا وغيثا مدرارا.
وذكرنا آنفا أنه قسم البلاد بين أبنائه وأهل بيته، فكانت دمشق للأفضل ومصر للعزيز وحلب للظاهر، والديار الفراتية لأخيه العادل وبعلبك لبهرام شاه وحمص لشيركوه الثانى. وكان ذلك نذير شؤم فإن العادل أخذ يحرّض أبناء صلاح الدين بعضهم على بعض واستطاع التخلص منهم، وخلصت له البلاد من مصر إلى الفرات منذ سنة ٥٩٦ ما عدا حلب فإنها ظلت مع الظاهر وأبنائه حتى الغزو المغولى. وصنع صنيع أخيه فجعل مصر للسلطان الكامل ودمشق للسلطان المعظم والجزيرة الفراتية لثلاثة من أولاده على التعاقب هم الأوحد والفائز والأشرف موسى. ويغزو حملة الصليب مصر فى سنتى ٦٠٩ و ٦١٥ وينكل بهم السلطان الكامل على نحو ما صورنا ذلك فى قسم مصر. ونمضى إلى سنة ٦٢٦ وإذا فردريك الثانى ملك صقلية يأتى على رأس حملة إلى فلسطين