للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى شاكلة معاذ فى الورع والتقوى من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الشام أبو الدرداء الأنصارى، وهو أحد حفظة القرآن الكريم لعهد الرسول وأول من تقلد القضاء بدمشق إلى أن توفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، وهو من أهل الصّفّة الأتقياء، ويروى الجاحظ عنه أنه كان يقول «نعم صومعة المؤمن منزل يكفّ فيه نفسه وبصره، وإياكم والجلوس فى الأسواق فإنها تلهى وتحمل على اللغو فى الكلام» ويروى عنه أيضا قوله: «أضحكنى ثلاث وأبكانى ثلاث: أضحكنى مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدرى ساخط ربه أم راض، وأبكانى هول المطّلع (١)، وانقطاع العمل، وموقفى بين يدى الله لا يدرى أيؤمر بى إلى الجنة أم إلى النار». وأخذ يتكاثر بعد جيل الصحابة فى الشام العباد والأتقياء ونلتقى بهم فى كل طائفة: فى القضاة والفقهاء والمحدّثين وقرّاء الذكر الحكيم.

واتسع ذلك حتى شمل بعض الحكام على نحو ما هو معروف عن الخليفة عمر بن عبد العزيز وهو يمثل نموذج الحاكم المتقشف الزاهد الذى يخشى الله فى كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، ومرّ بنا أنه رفع المكوس وضرائب السدود والمعابر عن الناس وأنه سوّى بين المسلمين الجدد من الموالى والمسلمين من العرب فحطّ عنهم-مثلهم الجزية-واكتفى بالزكاة. وكتب إليه أحد عماله: إن أهل الذمة قد أقبلوا على الإسلام حتى يتخلصوا من الجزية، فأجابه: إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا. ويفيض ابن سعد فى ترجمته له بطبقاته فى بيان زهده ورفضه لمتاع الجباة من رقيق يملكه ومن عطر يتطيب به. وعمل بكل جهده على نشر العدل فى دولته ورفع المظالم عن الناس. وكان يجهد نفسه فى النسك والتعبد حتى اصفرّ لونه ونحل جسمه، وأنكر منه بعض الزهاد ممن كانوا يلمون به ذلك فقال له: كيف بك لو رأيتنى فى قبرى وقد سالت الحدقتان-بعد ثلاث ليال-على وجنتى وتقلّصت الشفتان لكنت إذن أشد نكرا. وطبيعى أن يكون عمر من أسباب اتساع موجة الزهد فى الشام. ونكتفى بذكر بعض من تموج بهم كتب القراء والفقهاء والتاريخ من هؤلاء الزهاد العباد. من ذلك ما يقولونه عن شيبان الراعى المتوفى سنة ١٥٨ وكان من كبار الفقهاء الزهاد وكان من أكابر أهل دمشق وعكف على النسك، وبلغ به ذلك أن ترك الدنيا واتخذ له صومعة فى جبل لبنان فانقطع بها يتعبد الله.

ونسمع كثيرا عن عباد انقطعوا بهذا الجبل مؤثرين الإقامة به للتعبد (٢)، ومنهم من كان يتعبد الله فى جبال أنطاكية والمصّيصة، ومنهم من يتخذ الصوامع، وظل ذلك متبعا حتى زمن ابن


(١) الاستشراف للآخرة
(٢) راجع مقدمة أحسن التقاسيم للمقدسى.

<<  <  ج: ص:  >  >>