جبير (١). وكان منهم من لا يبعد عن دمشق إلى الجبال النائية مثل فهر بن جابر الطائى المتوفى عام ٢٢٠ فإنه لما بلغ الخمسين من عمره اعتزل الناس بجوار دمشق، وأخلص نفسه للتقوى والنسك، وله فى الزهد كتاب سماه:«العروج فى درج الكمال والخروج من درك الضلال». ونلتقى بمعاصره أبى سليمان الدارانى عبد الرحمن بن أحمد بن عطية المتوفى سنة ٢١٥ وفيه يقول ابن تغرى بردى:
«كان من واسط وتحول إلى الشام ونزل قرية داريّا غربى دمشق، وكان إماما حافظا كبير الشأن فى علوم الحقائق والورع أثنى عليه الأئمة، وكان له الرياضات والسياحات، ويقول الهجويرى:
«كان ريحانة القلوب، اختص بالرياضات الشديدة والمجاهدات الشاقة». وتسلكه كتب الصوفية، فى تراجمهم. ولم يكن التصوف حتى زمنه استقل عن الزهد بأحواله ومقاماته، فهو إلى أن يكون زاهدا أقرب منه إلى أن يكون متصوفا. وحمل عنه نزعته النسكية تلميذان أو مريدان، هما أحمد ابن عاصم الأنطاكى وابن أبى الحوارى الدمشقى، أما ابن عاصم فتوفى بعد أستاذه بخمس سنوات، ويسلكه المتصوفة بين أوائلهم ويقولون إنه كان يجمع بين الأصول والفروع فى الشريعة، وكان يقول:«أنفع الفقر ما كنت به متجملا وعنه راضيا» ويذكر بروكلمان له كتابا فى الزهد سماه «دواء القلوب ومعرفة همم النفس وآدابها» ويقول إن الغزالى ينقل عن هذا الكتاب كثيرا. وتلميذ الدارانى الثانى أو مريده ابن أبى الحوارىّ أحمد توفى سنة ٢٣٠ وكان من بيت زهد، فأبوه من الورعين وكذلك ابنه عبد الله، وذكر عند الجنيد متصوف بغداد فقال:«ريحانة الشام». وكان يعاصره الشيخ أبو عبيد وان عابدا تقيا صالحا توفى سنة ٢٣٨ وقد وهب نفسه للغزو وجهاد أعداء الله.
ونلتقى فى طرسوس دار حرب الروم بالشيخ أبى الحارث الفيض بن الخضر الأولاسى المتوفى سنة ٢٩٧ وكان أحد الزهاد العباد وله إشارات ولسان حلو وأقوال عالية، وهو منسوب إلى أولاس فى نواحى طرسوس، وكان بها حصن يسمى حصن الزهاد، وكأنما اتخذوه رباطا لحرب أعداء الإسلام. وهو شاهد على ما قلناه مرارا فى كتاباتنا من أن زهادنا ومتصوفتنا كانوا دائما يرون من تمام تصوفهم وزهدهم أن يجاهدوا العدو ويرابطوا له فى الثغور، حتى إذا كان نفير الحرب تقدموا الصفوف يقتلون أعداء الدين الحنيف ويستشهدون. وكان يعاصر الأولاسى أحمد بن يحيى
(١) يقول ابن جبير فى كلامه عن دمشق سنة ٥٧٨ كان الخير ينثال على الغرباء من الخطباء والمعلمين لا فى دمشق وحدها بل أيضا فى القرى والضياع، ومن سئم المقام فيها متى سئم المقام يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودى (شمالى الموصل) فيلقى بهما المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء وينصرف إلى حيث شاء.