للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخذت عنها الرهبنة التى أسسها أحد قساوستها فى أواسط القرن الرابع للميلاد، وكانت أول بلدة شامية استجابت إليها غزّة لقربها من مصر، ومنها انتقلت إلى كل بلدان الشام حتى أنطاكية، وكانت طوال العصر الهيلينى تعدّ ثالثة المدن فى الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية والإسكندرية.

ومما يدل بوضوح على مدى تأثير الهيلينية فى الشام أن نراها تتعمق باديتها أيام الرومان إلى دولة تدمر النبطية حين بلغت الذروة الطامحة إليها فى عهد أذينة. وحين خلفته فى الحكم أرملته زنوبيا اتخذت لونجينوس الذى علمها اليونانية مستشارا لها، ويظن أنه كان حمصى الموطن، وقد أعدمه الرومان بعد قضائهم على زنوبيا سنة ٢٧٣ م. وهو يوضع فى سلسلة النقاد المتأخرين من اليونان لما خلف من أفكار نقدية وبلاغية كثيرة.

وكل ذلك معناه أن الشام حين فتحها المسلمون كان بها تراث يونانى ومسيحى (١) يعدها للمشاركة سريعا فى نشاطها العلمى والأدبى بمجرد دخول الإسلام فى ربوعها الذى كان يدفع أتباعه دفعا إلى التزود بالعلم والمعرفة. وقد دخل أهل الشام فى دين الله أفواجا، وكان من حولهم الصحابة الفاتحون لديارهم، وعنى كثيرون منهم بإقراء من أسلموا القرآن وعرض أحاديث الرسول عليهم، حتى يفقهوا فقها حسنا تعاليم دينهم الحنيف. وكانوا ما يزالون يفتونهم فى المسائل حتى يتبينوا الحلال فيتبعوه والحرام فينبذوه. وكان من حسن حظ أهل دمشق خاصة أن نزل بين ظهرانيهم أبو الدرداء أحد حفظة القرآن لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما مر بنا، وكان أول من تقلد القضاء بدمشق حتى توفى، وحبس وقت فراغه على إقراء الناس القرآن، وقد بلغ من أقرأهم ألفا وستمائة ونيفا، وكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريف مقرئ، وكان يقف فى محراب الجامع يراقبهم ويرمقهم ببصره. وإذا غلط واحد من أى عشرة رجع إلى عريفه، وإذا شك العريف فى شئ رجع إلى أبى الدرداء، وأيضا يرجع إليه كل قارئ من العشرة إذا أحكم قراءة القرآن واستظهره جيدا (٢). وهذا العدد الضخم من حفظة القرآن فى دمشق لأول عهدها بالإسلام يوضح مدى إقبال أهلها على العلم بالإسلام، وكان هناك كثيرون يفسرون لهم آيات منه كما كان هناك كثيرون يفتونهم، ونهض بذلك من نزل ديارهم من الصحابة واتخذوها موطنا، ثم


(١) انظر فى هذا التراث وكل ما ذكرت آنفا كتاب «تاريخ سورية ولبنان وفلسطين» لفيليب حتى-الجزء الأول-الترجمة العربية.
(٢) انظر ترجمته فى كتاب «غاية النهاية فى طبقات القراء» لابن الجزرى (نشرة برجستراسر) ١/ ٦٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>