معصية من أشد المعاصى، فاعتقل بسبب هذه الفتوى وجعل فى قاعة حسنة بقلعة دمشق وأقام بها مشغولا بالتصنيف والتأليف، وبأخرة من أيام سجنه منع من الأوراق والدواة والقلم، ولم يلبث أن توفى سنة ٧٢٨.
وواضح أن محنة ابن تيمية وسجنه لم يكونا بسبب اجتهاده فى مسائل الشرع وإنما بسبب تعرضه لمسألة عقيدية تتصل بصفات الله وأخرى تتصل بزيارة قبور الأنبياء والأولياء. وكان فى الصفات يأخذ برأى السلف ويترك رأى الأشاعرة والمعتزلة أى أنه لم يكن اجتهادا منه، أما مسألة الاجتهاد فى الشرع فقد تركها العلماء له. ولسنا بصدد إحصاء آرائه الفقهية الجديدة. إنما حسبنا أن نشير إليها وأن نتخذ منها دليلا-كما مر بنا آنفا-على أن باب الاجتهاد ظل مفتوحا على مصاريعه طوال زمن المماليك حتى بين الحنابلة. واشتهر فى كل مذهب فقهى مجتهدون جدد مثل النووى فى المذهب الشافعى. ونفس آراء ابن تيمية ظلت حية عاملة بعده إلى أن استمدت منها الحركة الوهابية بواعثها بعد أربعمائة من السنين. وإذا كان قد تورط بعض فقهاء الشافعية فى محاكمته بدمشق والقاهرة فإن ابن تغرى بردى يذكر أن كبيرهم فى دمشق ابن الزّملكانى ونظيره فى مصر ابن دقيق العيد أثنيا عليه ثناء عطرا وينقل عن ابن الزملكانى قوله عنه:«العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام الأئمة، وقدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين. . محيى السنّة ومن عظمت به لله علينا المنّة».
وعلى هذا النحو كانت الحياة العلمية نشطة مزدهرة فى زمن المماليك، وكانوا يشجعون العلماء والأدباء، وطالما اقترحوا على بعض المؤلفين تأليف هذا الكتاب أو ذاك، وكانت البلاد دارّة وقضاتها على المذاهب الأربعة يحكمون بين الناس بالعدل. فلما أطل لواء العثمانيين الشام أصابها ما أصاب مصر من انتكاس الحركتين العلمية والأدبية، ومع ذلك ظلت جذوة منهما متقدة فى بعض المدارس والجوامع وبخاصة فى الجامع الأموى بدمشق، إذ ظلت فيه حلقات التدريس.
ومرّ بنا أن الحكم العثمانى بالشام أخذ يسوء سوءا شديدا، وأخذت المظالم فيه تزداد والضرائب تتضاعف، وكان لذلك أثره فى تدهور الحركتين العلمية والأدبية. وألغى العثمانيون نظام قضاة المذاهب الأربعة الذى وضعه الظاهر بيبرس وظل قائما طوال أيام المماليك، حتى إذا حكموا البلاد استعاضوا عن هؤلاء القضاة بقاض عام واحد هو قاضى العسكر، وألغوا استخدام العربية فى دواوين الولاية، واستخدموا مكانها التركية، وكان لذلك تأثيره على الكتابة والكتاب، فلم تعد تكتب رسائل ديوانية ولا مناشير وتقاليد بالعربية، غير أن العربية كانت لغة الدين الحنيف، فظلت