للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى الخليفة، وخصهم بكتابه عن الباطنية. وجعله تحرره الفكرى يفتح باب الاجتهاد على مصاريعه ويفتى فتاوى حرة فى كثير من مسائل الشرع. وجلب عليه ذلك سخط فئات كثيرة وخاصة من الفقهاء وعلماء الكلام الأشعرية، إذ شملتهم هجماته. وهى هجمات صريحة جريئة ألبت عليه كثيرين من الخصوم فى بيئات مختلفة، وبدأ ذلك بوضوح منذ سنة ٦٩٨ إذ جاءه سؤال من حماة عما فى القرآن الكريم من آيات قد تفيد التشبيه على الذات العلية إذا فهمت على ظاهرها مثل: {(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اِسْتَوى)} و {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ومذهب المعتزلة والأشعرية تأويل مثل هذه الآيات، وأن المراد فى الآية الاستيلاء على العرش، ومعنى كلمة يد فى الآية الثانية القدرة. ومذهب الحنابلة، وهو ما أجاب به ابن تيمية فى رسالة مستقلة: أن واجبا أن نؤمن بما جاء فى القرآن من هذه الصفات دون كيفية ودون تشبيه بالمخلوقات وأيضا دون تأويلها فوق طاقة الإنسان. وسرعان ما اتهمه الفقهاء الأشاعرة بأنه يرى فى الذات العلية رأى المجسمة أو المشبهة، ورفعوا أمره إلى قاضى القضاة بدمشق فبرّأه من التهمة. ونجاه الله من هذه المحنة.

ثم كانت التهمة الثانية لابن تيمية فى سنة ٧٠٥ بسب حملته على الطريقة الصوفية الرفاعية وما يموّه به أصحابها على الناس من النفوذ من النار وغير ذلك من كرامات يدّعونها، وشكوه إلى نائب السلطنة بدمشق، فأمرهم النائب أن يكفوا عن حيلهم وخداعهم للناس كما مر بنا. وفى نفس السنة طلب إلى القاهرة لمناظرة علمائها واجتمعوا له-وخاصة فقهاء الشافعية الأشاعرة- وأخذوا يناقشونه فى إثبات الصفات على الله حسب ظاهرها القرآنى، فالله استوى-كما يقول- حقيقة على العرش ونحو ذلك. وجادلهم ابن تيمية طويلا موضحا رأيه فى الإيمان بهذه الصفات دون كيفية ودون إثبات تجسيد على الله، غير أنهم حكموا عليه بالسجن وظل فيه عاما وبضعة أشهر. ولبث فى القاهرة يعلّم ويعظ، وسرعان ما أوقع به خصومه بدعوى حملته على أصحاب المنزع الفلسفى فى التصوف القائلين بالحلول ووحدة الوجود. وسجن بالإسكندرية، حتى إذا رقى عرش مصر الناصر بن قلاوون سنة ٧٠٩ ردّ إليه حريته وأكرمه إكراما عظيما. وفى سنة ٧١٢ عاد إلى دمشق وتفرغ للتأليف والإفتاء، حتى إذا كانت سنة ٧١٨ وأفتى أن الحلف بالطلاق كالحلف بالله يكفّر عنه وأن الطلاق بالثلاث يعدّ طلقة واحدة. حينئذ ثارت ثائرة الفقهاء، حتى أجبروا السلطان على منعه من الفتوى بذلك، وصدع السلطان لمشيئتهم. غير أنه عاد إلى الإفتاء بما ذكرنا فى سنة ٧٢٠ وعقد بدمشق مجلس لمحاكمته، وسجن ولبث فى السجن خمسة أشهر وأياما ثم ردّت إليه حريته. حتى إذا كانت سنة ٧٢٦ أفتى بأن الرحلة إلى قبور الأنبياء والأولياء والصالحين

<<  <  ج: ص:  >  >>