للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ثمّ لا يشمت بموت النعمان كما شمتت ذبيان وغيرها من قبائل قيس، بل إنه ليدعو على أعدائه أن لا يهنئوا بمصرعه، ويحدثنا عن جيوشه وانتصاراتها فى القبائل. ويقف ليرد على من جهلوا شيمته من الحفاظ على العهد والضن بسابق الود، فقد ظنوا أنه لن يرثى النعمان ولن يذكره، ويقول كيف لا يذكره، وقد حرك موته ما يشبه الداء العضال فى فؤاده، ونحس أنه سعر قلبه وأشعل صدره بشعلة من الحزن لا تخبو. وما زال يبكيه متعزيا بأن الموت سنة الأحياء وأنه كأس دائر على الجميع، حتى قال داعيا له ومترحما عليه:

سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم ... بغيث من الوسمىّ قطر ووابل (١)

ولا زال ريحان ومسك وعنبر ... على منتهاه ديمة ثم هاطل (٢)

وينبت حوذانا وعوفا منوّرا ... سأتبعه من خير ما قال قائل (٣)

وهو يستمطر على قبره شآبيب الغيث، ولا يكتفى بذلك بل يدعو له أن يظل قبره معطرا بالريحان والمسك والعنبر، ولا تزال تمده الأمطار بما ينبت عنده النباتات العاطرة من مثل الحوذان والعرف. وحقّا كان الشعراء حوله ومن قبله يستسقون السحاب لقبور من يفقدونهم، ولكنه مدّ أطناب الصورة بذوقه الحضرى وأضاف إليها الريحان والمسك والعنبر، ودعا للأرض أن تنبت من حول النعمان الأزهار والرياض. وهى صورة حضارية تقابل أختها التى مرت فى مديحه لأخيه عمرو.

وقد قدّم لهذه المرثية كما قلنا بالنسيب، وهو يقدم به لبعض اعتذاراته مؤتسيا بمن حوله من شعراء الجاهلية إذ كانوا يضعونه غالبا فى مقدمات قصائدهم، وكأنهم يريدون أن يستوحوا المرأة شعرهم وقصيدهم. ومن نسيبه قوله فى فاتحة معلقته التى أودعها إحدى اعتذاراته:

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد (٤)

وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد (٥)


(١) بصرى وجاسم: موضعان بالشام. الوسمى: أول المطر. وابل: غزير.
(٢) منتهاه: قبره. الديمه: المطر ليس فيه برق ولا رعد. الهاطل: المطر المتتابع.
(٣) الحوذان والعوف: نباتان طيبا الرائحة.
(٤) العلياء والسند: موضعان. أقوت: خلت. الأبد: الزمن.
(٥) أصيلانا: تصغير أصلان جمع أصيل أو لعله مصدر من أصيل على وزن غفران. عيت: عجزت.

<<  <  ج: ص:  >  >>