إليهما كثيرا من روائع الكتب، مع نزعة صوفية قوية فيه. وتصدى فى دمشق بعد أستاذه للإقراء والإفتاء وصنّف كثيرا فى الفقه والتفسير والحديث والأصول والفروع، ومن تصانيفه إعلام الموقعين وشرح منازل السائرين، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وطرق السعادتين، ويقول ابن حجر فى الدرر: هو طويل النفس فى كتاباته يحاول الإيضاح جهده فيسهب جدا، ويقول الشوكانى فى البدر الطالع:«له من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين بحيث تعشق الأفهام كلامه وتميل إليه الأذهان وتحبه القلوب». ويزخر كتاب النجوم الزاهرة بأسماء فقهاء الحنابلة وقضاتهم بدمشق وغيرها حتى نهاية زمن تأليفه سنة ٨٧٢.
ويلقانا بأخره من أيام المماليك مجير الدين العليمى عبد الرحمن بن محمد قاضى بيت المقدس المتوفى سنة ٩٢٧ وله كتاب فى طبقات الحنابلة سماه «المنهج الأحمد فى تراجم أصحاب الإمام أحمد».
ويظل للفقهاء الحنابلة نشاطهم أيام العثمانيين مثلهم فى ذلك مثل بقية أصحاب المذاهب الثلاثة الأخرى.
ومنذ ظهرت المذاهب الفقهية والكلامية والجدل يحتدم بين أصحابها، مما أتاح مبكرا لنشأة علم الجدل وما تبعه من نشأة علم آداب البحث والمناظرة، ويكثر التأليف فيهما لهذا العصر كما يكثر التأليف فى علم الأصول الذى وضعه الإمام الشافعى وفاق الأولين والآخرين فيه الآمدى الذى سنلم به فى حديثنا عن علم الكلام بجزء مصر، وكان قد نزل مصر ثم استوطن حماة حتى وفاته سنة ٦٣١، وكتابه «الإحكام فى أصول الأحكام» ربما كان أروع كتاب فى علم الأصول على مدى الأزمنة الماضية. والشام-مثل مصر-انصرفت عن الاعتزال وعن الفرق الكلامية الكثيرة التى نشأت فى بغداد، حتى إذا ظهر الأشعرى المتوفى سنة ٣٢٤ وانضم تحت لوائه شافعية خراسان انضم مثلهم شافعية الشام ومصر بحيث تعانق المذهبان. الشافعى والأشعرى فى كل مكان. ولم يلبث أن خاصمهما الحنابلة الآخذون بظاهر الكتاب والسنة، واستمر هذا الخصام على مدار السنين فى أزمنة الأيوبيين والمماليك. ومن حين إلى آخر يتوقف السبكى فى طبقاته ليصور تعصب بعض الحنابلة ضد الأشاعرة وخاصة أستاذه الذهبى، فقد كان يتعصب تعصبا شديدا ضدهم على نحو ما سنعرض ذلك فى غير هذا الموضع. وفى الوقت نفسه يشيد بفقهاء الشافعية الذين يردّون على خصوم الأشعرية، على نحو ما أشاد بفخر الدين بن عساكر فى رده المفحم على الحسن بن على الأهوازى المار بين القراء فى كتابه «تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبى الحسن الأشعرى». ويشيد السبكى