للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكن كأبيك أو كأبى براء ... توافقك الحكومة والصواب (١)

ولا تذهب بحلمك طاميات ... من الخيلاء ليس لهنّ باب (٢)

وإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب (٣)

وهى أبيات تخلو من الإقذاع فى الهجاء المعروف عند الجاهليين، وهو يعمد فيها بذوقه الحضرى إلى التهكم به والسخرية منه، فيصفه بالحمق، ويصغّر إليه نفسه بتفضيل أبيه وعمه عليه، وينهاه عن الخيلاء، ويؤمله فى أنه سوف يحلم حين تتقدم به السن أو لعله لا يحلم أبدا. وواضح أن الشطر الثانى فى البيت الأول حكمة سائرة، وتكثر هذه الحكم عند النابغة يأتى بها فى ثنايا شعره وقصيده، فتكون شطرا كهذا الشطر، وقد تكون بيتا كالبيت الأخير من هذه الابيات، وفيما تمثلنا من شعره كثير منها، ومن رائعها قوله:

ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أىّ الرجال المهذّب

ومما لا شك فيه أنه يدل بهذه الحكم على صدق نظرته ودقة حسّه.

وجوانب كثيرة فى شعر النابغة تفصح عن مهارته فى صوغ القصيدة ونظمها، سواء من حيث ألفاظه أو من حيث صوره ومعانيه، أما من حيث الألفاظ فإنك لا تقع منها على لفظة نابية، إنما تقع على الألفاظ المحكمة المستخدمة فى دلالالتها الدقيقة، ولعل ذلك ما جعله يلتزم الألفاظ البدوية الغريبة حين يصف الديار والصحراء والحيوان الوحشى، أما حين يمدح الملوك أو يرثيهم أو يعتذر إليهم فإنه يستخدم الألفاظ المأنوسة الجزلة الناعمة. وهذه البراعة عنده جعلت نقاد العصر العباسى يقولون: إنه «كان أحسن الجاهليين ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأجزلهم بيتا (٤)». على أنهم لم يلبثوا أن ادعوا عليه أنه كان يقوى فى شعره محتجين على ذلك ببيت فى قصيدة المتجردة التى وضعت عليه، فقد جاء فيها بيت مرفوع الروى، بينما رويها المطّرد مكسور، ورووا فى ذلك قصة، هى أن النابغة قدم


(١) أبو براء: عامر بن مالك ملاعب الأسنة وهو عم عامر بن الطفيل.
(٢) طاميات: فائضات ومرتفعات. ليس لهن باب: لا مخرج منهن.
(٣) أو شاب الغراب: ضرب النابغة ذلك مثلا لعامر وأنه لن يحلم أبدا.
(٤) طبقات فحول الشعراء لابن سلام ص ٤٦ وانظر الشعر والشعراء ١/ ١٠٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>