للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانتقل به أبوه وهو فى صباه إلى قيسارية (١)، فنسب إليها وقيل ابن القيسرانى إذ نشأ بها، ويبدو أنه هاجر منها مبكرا بعد استيلاء حملة الصليب عليها سنة ٤٩٤ وأبعد فى هجرته إلى الشمال إذ نزل حلب، وأقام فيها طويلا ربما نحو عقدين من السنين، ثم نزل دمشق. والقدماء مختلفون منهم من يقول إنه نزل حلب أولا ثم نزل دمشق، ومنهم من يقول بل نزل دمشق ثم نزل حلب، ودفعنا إلى ترجيح الرأى الأول أننا سنجده عما قليل أهم شاعر شامى عنى بتصوير البطولة العربية فى الفتك بحملة الصليب منذ سنة ٥٢٣ للهجرة وقد تجاوز الأربعين من عمره. وكانت دمشق كثيرا ما تشتبك مع الصليبيين فى حروب وتردهم على أعقابهم خاسرين كما حدث فى عهد حاكمها طغتكين سنة ٥٠٢ ويعود طغتكين مع مودود صاحب الموصل إلى كسرهم على طبريّة سنة ٥٠٧ واستطاع أن يهزمهم فى البقاع سنة ٥١٠ وهزم صاحب أنطاكية سنة ٥١٣.

وكل هذه الأحداث والانتصارات العظيمة لطغتكين لا نجد لها أى ذكر أو صدى فى شعر ابن القيسرانى مما يدل على أنه كان غائبا عن دمشق طوال هذه المدة. على كل حال يدل غياب هذه الأحداث السالفة على أنه لم يكن بدمشق فى أثنائها وأنه نزل حلب أولا وأقام بها حتى نهابة العقد الثانى من القرن السادس ثم نزل دمشق بعد ذلك. ويدل دلالة قاطعة على أنه كان بها فى عهد بورى بن طغتكين (٥٢٢ - ٥٢٦ هـ‍) أننا نجده ينشده أولى قصائده فى الحروب الصليبية حين هزم حملة الصليب على أبواب مدينته فى أواخر سنة ٥٢٣ وفيها يقول:

وافوا دمشق فظنوا أنها جدة ... ففارقوها وفى أيديهم العدم

وغادروا أكثر القربان وانجفلوا ... وخلّفوا أكبر الصّلبان وانهزموا (٢)

وكان-كما قال مترجوه-يتولى فى أثناء مقامه بدمشق إدارة الساعات بها إلى أن تولى شمس الملوك بن بورى (٥٢٦ - ٥٢٩ هـ‍) حكمها، فاصطدم به ابن القيسرانى، مما جعله يهجوه، وعلم بهجائه فضاقت عليه الأرض بما رحبت، وفر منه بعيدا إلى العراق. وترك العراق سريعا إلى حلب حين سمع بانتصارات عماد الدين زنكى على حملة الصليب واستيلائه منهم على المعرة وبعرين، وتتأكد صلته به منذ سنة ٥٣٤ إذ نجده يشيد بانتصاره على جموع الصليبيين واستيلائه منهم على حصن بارين غربى حلب فى الطريق إلى حماة، ويشعر فى عمق ببطولة العرب وعماد الدين قائلا:


(١) كانت ثغرا كبيرا من ثغور فلسطين.
(٢) انجفلوا: تشردوا

<<  <  ج: ص:  >  >>