هذا التاريخ فى سنة ٤٠٠ بحياة زاهدة خشنة ملازما داره وبلدته لا يبرحها، وإلى ذلك يشير بقوله:
أرانى فى الثلاثة من سجونى ... فلا تسأل عن الخبر النّبيث (١)
لفقدى ناظرى ولزوم بيتى ... وكون النفس فى الجسم الخبيث
ثلاثة سجون أحاطت قضبانها به: سجن روحه فى جسده وسجن داره وسجن فقده لبصره، وظل يفرغ نحو خمسين عاما لنظم زومياته ولتأليف كتبه الكبرى، ومر بنا أن حلب تبعت مصر منذ سنة ٤٠٧ إلى سنة ٤١٥ وكان أول ولاتها للحاكم بأمر الله الفاطمى عزيز الدولة فاتك الوحيدى وله ألف أبو العلاء كتاب الصاهل والشاحج متحدثا فيه على لسان فرس وبغل، وقد حققته الدكتورة عائشة عبد الرحمن ونشرته دار المعارف، ويقول ابن العديم إنه ألفه لفاتك بسبب حق على بعض أقربائه. وله أيضا صنع كتابه «القائف» وهو أمثال على طريقة كليلة ودمنة، ولم يكد يتم الجزء الرابع منه حتى توفى فاتك سنة ٤١٣ فعدل عن إتمامه. وولى حلب بعد فاتك سند الدولة الكتامى سنة ٤١٤ وقدّم له أبو العلاء الرسالة السّندية فى مجلد واحد.
واعتقل صالح بن مرداس أمير حلب فى سنة ٤١٨ سبعين رجلا من المعرّة هم مشايخها وأماثلها، واجتاز صالح بالمعرة، فخرج إليه أبو العلاء شافعا فيهم فقال له صالح:«قد وهبتهم لك أيها الشيخ». وعاد إلى داره وهو ينشد:
بعثت شفيعا إلى صالح ... وذاك من القوم رأى فسد
فيسمع منّى سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
ومنذ حبس نفسه فى داره أصبح ملاذا لطلاب العلم فى العالم العربى، فهم يغدون عليه ويروحون يأخذون عنه كتبه وشروحها، وبالمثل دواوينه وشروحها، وكثيرا من كتب اللغة وفى مقدمتها كتاب غريب الحديث لأبى عبيد القاسم بن سلام غير كتب لغوية أخرى كثيرة. ويقول ابن فضل الله العمرى:«أخذ عن أبى العلاء خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، كلهم قضاة وأئمة وخطباء وأهل تبحّر وديانات. . وكان له أربعة من الكتّاب المجوّدين يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس وما يمليه من النظم والنثر والتصانيف والإجازات والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه». وعقد ابن العديم فى كتابه عنه المسمى «الإنصاف والتحرى» فصلا ذكر فيه مشاهير تلاميذه.