وكان أبو العلاء آية خارقة فى الذكاء وقوة الحافظة حتى قالوا إنه كان يلعب النرد والشطرنج، وإذا سمع حديثا بلغة غير العربية حفظه بحذافيره، وقد تحول يعبّ وينهل من ثقافات عصره حتى استوعبها جميعا سواء المترجم عن اليونانية من فلسفة وغير فلسفة، أو المترجم عن الفارسية والهندية فكل ذلك مضافا إلى الثقافتين: الإسلامية والعربية تمثّله أبو العلاء تمثلا حيّا خصبا، يرفعه إلى أعلى منزلة، يتمثّل صاحبها التراث الإنسانى جميعه.
ومنذ سنّ الثلاثين اختار لنفسه صوم الدهر ما عدا أيام الأعياد كما أسلفنا، واختار لنفسه معه حياة زاهدة، وذكر ذلك فى شعره إذ قال إن طعامه العدس والتين أو كما يسميهما البلسن والبلس رافضا ما وراءهما من طيبات الطعام ولذائذه، إذ يقول:
يقنعنى بلسن يمارس لى ... فإن أتتنى حلاوة فبلس
ويقول ناصر خسرو فى رحلته المسماة «سفرنامه» إنه زاره سنة ٤٣٨ فوجده فى سعة من العيش مما جعل بروكلمان يشك فى أنه عاش معيشة زاهدة. وهو قول مدفوع بإجماع من ترجموا له من القدماء: أنه كان يعيش معيشة زهد وتقشف، حتى لنرى القفطى-وهو أحد من تحاملوا عليه ورموه بالإلحاد-يقول: لم يكن أبو العلاء من ذوى الأموال، وإنما خلّف له وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن، فمشى حاله على قدر الموجود، فاقتضى ذاك خشن الملبوس والمأكل والزهد فى ملاذ الدنيا، وكان الذى يحصل له فى السنة مقدار ثلاثين دينارا قدّر منها لمن يخدمه النّصف، وأبقى النصف الآخر لمئونته، فكان أكله العدس-إذا أكل-مطبوخا وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن وفرشه من لباد (صوف) فى الشتاء وحصيرة من البردىّ فى الصيف، وترك ما سوى ذلك». وربما كان هذا الدخل القليل من أسباب تركه لأكل اللحم ومستخرجاته من البيض واللبن، لا أخذا بمذاهب الحكماء ولا اتباعا لمذهب البراهمة الهندى، كما قيل، بل لضيق ذات يده وإشفاقا على الحيوان، ولعله صنع ذلك مبالغة فى الزهد ورفض طيبات الحياة.
وكان أبو العلاء يحسّ بعمق آلام الإنسان فى دنياه، ولعل ذلك ما جعله يعزف عن الزواج حتى لا يرزق بولد يكابد من دنياه ما كابده وصرّح بذلك قائلا:
هذا جناه أبى علىّ ... وما جنيت على أحد
ويقال إنه أوصى بكتابة هذا البيت على قبره حين أوشك على مفارقة الدنيا فى سنة ٤٤٩. وله