هالة سحرية، وبذلك تستحيل فى خيال الشاعر المحب لها أو العاشق إلى كائن شعرى ساحر. وقد يفيق المحب من حبه وسحره، وقد يظل رهينا به لا ينفك عنه أبدا ولا يفيق بتاتا.
ونستطيع أن نلاحظ ذلك على شاعر شامى من شعراء العصر العباسى الأول هو ديك الجن الحمصى، فقد ظل يتغنى بمحبوبته «ورد» طوال حياته حتى بعد أن وسوس له شيطان الغيرة الحمقاء أن يحرقها ظلما وبهتانا، فقد ظل يبكيها بكاء قلب مزقه الندم والألم. وظل البحترى مثله يتغزل بصاحبته «علوة الحلبية» حتى شيخوخته على نحو ما صورنا ذلك فى كتابنا «العصر العباسى الثانى». ومن المؤكد أن شعراء الغزل العربى-على مر الأزمنة-أتاحوا بحبهم وأشعارهم لغير امرأة أن تنال حظا من الشهرة قليلا أو كثيرا. ولولا ديك الجن ما اشتهرت «ورد» ولا عرفها أحد ولولا البحترى ما اشتهرت علوة ولا حفل بها أحد، وقد ظلت دارها قائمة معروفة بحلب حتى زمن ياقوت صاحب معجم البلدان فى القرن السابع الهجرى. على أن بين الشعراء من لم يقتصر فى غزله على واحدة بعينها فتغزل بكثيرات وقليل منهم من نشعر عنده بلوعة حقيقية. ومنذ الجاهلية يتنوع الغزل، ففيه العفيف النقى الذى أضاف إليه الإسلام بمثاليته عفة على عفة وطهرا على طهر، والشاعر المحب يصور فيه وجده وهيامه وكلفه بصاحبته كلفا شديدا وعذابه فى هذا الكلف عذابا متصلا. وفى الغزل بجانب ذلك الغزل الحسى الذى يصور جمال المرأة ومفاتنها تصويرا ماديا تطغى فيه الغرائز وتجمح العواطف. وظل هذان النوعان: الملائكى الطاهر والمادى الصريح يتقابلان فى الغزل العربى طوال الحقب الماضية. والحديث عن الغزل وشعر الحب عند شعرائنا يطول فلندع ذلك إلى أمثلة مختلفة من غزل هذا العصر بديار الشام، وأول ما نسوق من ذلك قول كشاجم فى صاحبة له (١):
السّحر فى ألحاظها الفاتكه ... والرّوح من إعراضها هالكه
والقهوة الصّهباء من ريقها ... والمسك من أصداغها الحالكه
من لم ير الدرّ وتأليفه ... فى سلكه فليرها ضاحكه
قد كتب الحسن على خدّها ... طلّ دم أنت له سافكه
والأبيات تخلو من العاطفة المشبوبة، إذ ليس فيها حرارة، إنما فيها تشبيهات واستعارات
(١) ديوان كشاجم (طبع المطبعة الأنسية ببيروت) ص ١٣٩.