للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتناول ابن منير فى شعره أغراضا مختلفة فى مقدمتها المديح، ومرّ بنا-فى غير هذا الموضع حديث عن مديحه لعماد الدين زنكى وابنه نور الدين فى انتصاراتهما الرائعة على حملة الصليب، ويشيد العماد الأصبهانى بشعره وروعته. وكان يكنى أبا الحسن ويلقّب المهذب وقال فى وصف شعره أحد معاصريه: شعره ككنيته حسن ونظمه كلقبه مهذب، أرقّ من الماء الزّلال، وأدق من السحر الحلال، وأطيب من نيل الأمنية، وأعذب من الأمان من المنية. وله هجاء كثير.

وكان يجيد الغزل وشعر الحب إلى أبعد حد، وفى رأينا أن مرجع ذلك إلى حزن تنطوى عليه نفوس الشيعة جميعا منذ مقتل الحسين، وهو حزن صفّى مشاعره ورقق أحاسيسه وملأه بوجد متقد لا تخمد ناره، ومن رائع غزله قوله:

من ركّب البدر فى صدر الرّدينىّ ... وموّه السحر فى حدّ اليمانىّ

وأنزل النّير الأعلى إلى فلك ... مداره فى الكساء الخسروانىّ

طرف رنا أم قراب سلّ صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطّىّ

أذلّنى بعد عزّ والهوى أبدا ... يستعبد الّليث للظّبى الكناسىّ (١)

أما وذائب مسك من ذوائبه ... على أعالى القضيب الخيزرانىّ

وما يجنّ عقيقىّ الشّفاه من ال‍ ... رّيق الرّحيقىّ والثّغر الجمانىّ

أربى علىّ بشتى من محاسنه ... تألّفت بين مسموع ومرئىّ

والصور فى الأبيات طريفة غاية الطرافة، فهو يتعجب من بدر يراه فى صدر رمح ردينى مهيّئ لإصابة المحب فى الصميم، وإنه ليعجب أن يكون سحر العينين مموّها فى حد السيف اليمانى وأن يرى القمر أمام عينيه يدور على الأرض فى كساء فارسى حريرى. ويعجب هل العين طرف يديم النظر أو غمد سلّ سيفه القاطع، وهل هو بإزاء قدّ شائق ناعم يتثنى أو بإزاء أعطاف رمح خطّىّ قاتل، ويقول إن الهوى يستعبد الليث الفاتك للظبى الوداع الذى يعيش فى كناسه أو مأواه الآمن، ويرى ذوائب الشعر على أعالى هذا الغصن الخيزرانى الأملس الناعم تقطر ذوب المسك، أما الشفاه فوراءها الثغر الفضى من الأسنان والريق الرحيقى السائغ. وهى صور تدل على خصب الخيال عند ابن منير وقدرته على عرض الصور الشعرية عرضا طريفا. ويقول:

أترى يثنيه عن قسوته ... خدّه الذائب من رقّته


(١) الكناس: مأوى للظبى فى الشجر يستتر به

<<  <  ج: ص:  >  >>