للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبطال، وما أسرت جبنا ولا كان فرسى مهرا صغيرا بل كان مدربا على القتال، وكان صاحبه فارسا شجاعا يحسن النزال والفتك بالأعداء، وإنما هو القضاء الذى لا معدى عنه ولا مفر منه فى بر أو بحر. ويتجه إلى الروم غاضبا لقولهم إنهم منّوا عليه بتركه لابسا لأمته وعدته الحربية، وهو استشعار للفتوة والقوة ما بعده استشعار. ويقول إن دروعه ملطخة بدمائهم، إذ طالما دقّ نصال سيوفه فى أعناقهم وصدورهم. ويلتفت إلى قومه فيقول إنهم سيذكرونه حين تدق أجراس الحرب، سيذكرون فروسيته وبطولته وبلاءه فى الأعداء. وكأنما يضع قوانين الشباب العربى والأمة العربية، إنها ترمى بنفسها فى أتون الحرب فإما الصدر دون العالمين أو القبر، وإن رجالها وأبطالها ليبذلون أرواحهم فى نيل المعالى، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر ولم يعده باهظا، بل إنه يقدمه راضيا حتى لو كان روحه وقلبه. ويقول من مثلنا: نحن أعز الناس وأعلاهم وأكرمهم بذلا. والقصيدة تعويدة رائعة لفتوة العرب وصلابتهم، وهى جديرة بأن يضمّها كل شاب عربى إلى صدره وذاكرته يحفظها ويترنم بأبياتها البديعة. وحانت منه التفاته-وهو فى سجنه-إلى شجرة عالية فرأى على أحد غصونها حمامة وسمعها تنوح، فأنشد:

أقول وقد ناحت بقربى حمامة ... أيا جارتا هل تشعرين بحالى

معاذ الهوى ما ذقت طارقة النّوى ... ولا خطرت منك الهموم ببال (١)

أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائى المسافة عالى (٢)

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالى أقاسمك الهموم تعالى

أيضحك مأسور وتبكى طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالى

لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكنّ دمعى فى الحوادث غالى

وقد أثار نواح هذه الحمامة بمرأى منه ومسمع الشجون فى نفسه، ويعيذها من نوى وفراق كفراقه وغربة كغربته وهموم كهمومه. ويتساءل هل تحمل قوادم هذه الحمامة فؤادا محزونا؟ ويقول إن الدهر لم ينصف بينهما ويتساءل كيف يضحك أسير فقد حريته وتبكى حرة طليقة؟ بل كيف يسكت محزون ويخرس لسانه وتندب سالية ندبا متصلا؟ ولا يلبث أن يقول لها: لقد كنت أولى منك بالبكاء بكاء لا تنقطع دموعه بل تظل منهمرة، غير أن دمعى فى الحوادث والنكبات غال لا يسيل أبدا، وإنه ليتجشّم أثقالها ويتحملها فى قوة. وشعر أبى فراس وراء رومياته يكتظ بالفخر


(١) النوى: الفراق
(٢) القوادم: ريشات أربع كبار فى مقدم الجناح

<<  <  ج: ص:  >  >>