للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبا فراس وحده من بين الأسرى هو الذى لم نسلب منه سلاحه، وقد بدأها بحوار بينه وبين إحدى صواحبه.

أراك عصىّ الدمع شيمتك الصّبر ... أما للهوى نهى عليك ولا أمر

بلى! أنا مشتاق وعندى لوعة ... ولكنّ مثلى لا يذاع له سرّ

معلّلتى بالوصل والموت دونه ... إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر

تسائلنى من أنت؟ وهى عليمة ... وهل بفتى مثلى على حاله نكر

فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى ... قتيلك قالت أيّهم فهم كثر

وقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ... فقلت معاذ الله بل أنت والدّهر

وهو حوار وغزل فيهما فتوة وقوة، فهو لا يبكى، بل هو صابر صبر الرجال الأشداء، مع ما يستعر فى قلبه من لوعة إزاء معللته بوصل لا يناله، وكأنما تغيّر كل ما فيه فلم تعرفه وتسأله من أنت؟ تجاهل العارف، فيقول لها قتيلك، فتسأله أيهم فهم كثيرون. وتقول له: لقد نال منك الدهر، يكنى بذلك عن أسره، فيقول لها معاذ الله: بل أنت والدهر. ويمضى فى حوارها قائلا لها: لا تنكرينى يا ابنة العم فإننى غير منكر فى معمعان المعارك وقيادة الكتائب المعوّدة النصر واقتحام المخاوف والمخاطر المهلكة إلى الروم أسفك دماءهم وأسبى نساءهم دون أن أهتك لهم سترا أو أكشف لهم ثوبا، وما يلبث أن يصيح بكل فتوته:

أسرت وما صحبى بعزل لدى الوغى ... ولا فرسى مهر ولا ربّه غمر (١)

ولكن إذا حمّ القضاء على امرئ ... فليس له برّ يقيه ولا بحر

يمنّون أن خلّوا ثيابى وإنما ... علىّ ثياب من دمائهم حمر

سيذكرنى قومى إذا جدّ جدّهم ... وفى الليلة الظّلماء يفتقد البدر

ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصّدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا فى المعالى نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

أعزّ بنى الدنيا وأعلى ذوى العلا ... وأكرم من فوق التراب ولا فخر

يقول: أسرت وورائى صحبى يشهرون السيوف فى الحرب ولا يغمدونها أبدا، إنهم فرسان


(١) غمر: قليل التجربة. عزل: لا يحملون سلاحا

<<  <  ج: ص:  >  >>