للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجهه وأسر ابن أخته فى اللّقان وما كان من فراره على وجهه لا يلوى. وهو فى رومياته يحنّ إلى ملاعب صباه وشبابه ويشتاق إلى زوجه وأبنائه ويرثى لأمه العليلة وهى تسأل عنه الركبان حين أسر قائلا على لسانها:

يا من رأى لى بحصن خرشنة ... أسد شرى فى القيود أرجلها

ويرد عليها مسرعا

يا أمّتا هذه مواردنا ... نعلّها تارة وننهلها (١)

فمواردهم الحرب، يقتلون الأعداء وتقتلهم ويأسرون الأعداء وتأسرهم ولا تنال القيود الثقيلة من أقدامهم. ويقول فى قصيدة ثانية: لولا أمى العجوز ما خفت أسباب المنية ولا طلبت الفداء من ابن عمى أبدا. ويقول لها:

يا أمّتا لا تيأسى ... لله ألطاف خفيّه

أوصيك بالصبر الجمي‍ ... ل فإنه خير الوصيّه

فهو واثق فى الله ثقة تامة، وهو لا ييأس أبدا من فضله ورعايته، مع عزة نفس لا تماثلها عزة بل مع صلابة روح لا تشبهها صلابة، وتبدو هذه الصلابة منذ أيامه الأولى فى الأسر ونزولهم به فى خرشنة، إذ سرعان ما أنشد:

إن زرت خرشنة أسيرا ... فلقد حللت بها مغيرا

ولئن لقيت الحزن في‍ ... ك فقد لقيت بك السرورا

ويقول إنهم طالما فتكوا بأهلها وسبوا نساءهم الحور الفاتنات، وكم أشعلوا بها نيرانا التهمت المنازل والقصور وأتت عليها كأن لم تكن شيئا مذكورا. ونشعر كأنما تجسدت فى روح أبى فراس كل معانى القوة العاتية التى تميز بها العرب وفتحوا بها العالم القديم من أواسط آسيا إلى شمالىّ إسبانيا، على الرغم من أسره وما كان يعانيه من ألم وحزن، وكأنما يحمل بين جنبيه روحا لا يمكن أن تقهر مهما نزل بها من كوارث وخطوب.

وربما كان أروع قصائد أبى فراس حينئذ قصيدته الرائية التى نظمها حين قال الروم إن


(١) نعلّها: نشربها تباعا. ننهلها: نشربها ابتداء

<<  <  ج: ص:  >  >>