للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن فيها الجوع والعطش فغير صحيح إذ فيها غنائم لا تحصى أخذت قهرا من حملة الصليب، وفيها غير بلد عربى ردّ منهم إلى أهله. وقد شارك هو نفسه نور الدين فى بعض انتصاراته عليهم، وحضر معه حصاره لحصن حارم سنة ٥٥٩ للهجرة. وأدّته موجدته-فى رأينا-من نور الدين إلى أن يبرح دمشق إلى حصن كيفا بالموصل ويتخذها دار مقام له، وفيها يعكف على جمع ديوانه وتأليف كتبه، حتى إذا استولى صلاح الدين على دمشق سنة ٥٧٠ استدعاه. ولبّاه مبتهجا، فأعطاه دارا بدمشق وإقطاعا لمعاشه وفسح له فى مجالسه، حتى إذا كانت سنة ٥٨٤ للهجرة لبّى نداء ربه عن ستة وتسعين عاما.

ورتب أسامة ديوانه على الموضوعات، فباب للغزل وباب للمديح وباب للشكوى وباب للفخر وباب للوصف إلى غير ذلك من أبواب، ولم يفرد للجهاد بابا وكأنه ترفع عنه إباء واحتشاما وحياء. وأهم أبواب شعره باب الفخر، إذ كان فارسا شجاعا، وشارك فى حرب حملة الصليب منذ شبابه دفاعا عن مسقط رأسه، وجلّى فى معارك عماد الدين زنكى ضدهم، وكأنه ظل طوال حياته شاهرا سيفه فى وجوههم حتى بلغ السبعين، يقول:

لخمس عشرة نازلت الكماة إلى ... أن شبت فيها وخير الخيل ما قرحا (١)

أخوضها كشهاب القذف مبتسما ... طلق المحيّا ووجه الموت قد كلحا (٢)

بصارم من رآه فى قتام وغى ... أفرى به الهام ظن البرق قد لمحا (٣)

فسل كماة الوغى عنى لتعلم كم ... كرب كشفت وكم ضيق بى انفسحا

فهو قد نازل كماة الحرب أو شجعانها منذ سنته الخامسة عشرة، وظل ينازلهم حتى اشتعل رأسه شيبا لا يهن ولا يضعف بل تشتد قواه كما تشتد قوى الخيل حين يعلو سنها وتصبح قارحة مستتمة سنوات فحولتها. وإنه ليخوض أهوال الحرب كشهاب ساطع باسم الثغر متهلل الوجه وقد كشر الموت عن أنيابه. وإن سيفه ليلمع فى غبار الحرب-وهو يحطم به الرءوس حطما-كبرق يسطع، وما من شجاع إلا وهو يعلم كثرة ما كشف من كرب وهموم فى الحرب وكثرة ما انفسح له فيها من مضايق ومآزق. ومن قوله فى تنكيله بحملة الصليب فى غير موقعة:


(١) الكماة: الشجعان. قرح الفرس: بلغ الخامسة من عمره
(٢) طلق المحيا: مستبشر الوجه. كلح: عبس
(٣) قتام وغى: غبار حرب. أقرى الهام: أشق الرءوس

<<  <  ج: ص:  >  >>