للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعيد عن الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعى الخير جمّ المعايب

إذا رمت أن أسمو صعودا إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدّنيّة جاذبى

ويبدو أنه أراد بهجائه للناس الانتقام لضعة أسرته وأبيه، ومن العجب أن صلاح الدين الأيوبى البطل المغوار الذى أذلّ حملة الصليب ودفع جموعهم إلى البحر المتوسط وما وراءه واستولى على بيت المقدس المعظم منهم وغيره. هذا البطل الذى احتل السويداء من أفئدة المسلمين حين استولى على دمشق وابن عنين فى العشرين من عمره لم يبادر إلى مدحه، بل على العكس عمد إلى هجائه هجاء مقذعا هو ووزيره القاضى الفاضل وكاتبه عماد الدين الأصبهانى وغيرهما من كبار حاشيته ورجاله وفيه يقول:

سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب

وكان القاضى الفاضل أحدب وكان من خيرة الرجال وصفوة الكتاب الشعراء كما كان سيوسا حاذقا بتدبير الدول. وذاعت لابن عنين فى دمشق قصيدة طويلة يقال إنها بلغت خمسمائة بيت سماها مقراض الأعراض، وضجّ الناس من لسانه وبهتانه، ورفعوا شكواهم منه إلى صلاح الدين، فأمر بنفيه عن دمشق، فمضى على وجهه يجوب البلاد من الشام إلى العراق والجزيرة وأذربيجان وخوارزم وخراسان وماوراء النهر وغزنة ودخل الهند. ثم رحل إلى اليمن وحاكمها من قبل صلاح الدين أخوه طغتكين (٥٧٧ - ٥٩٣ هـ‍.) فوفد عليه، وقدم إليه مدائحه فلقيه لقاء كريما وخفّ على قلبه فاتخذه نديما، وأخذ يكثر من مديحه وطغتكين يكثر من عطائه، حتى أثرى، وكثر فى يده المال، فرأى أن يستثمره، وتحول تاجرا يتردد بعروضه بين اليمن ومصر فى العقد التاسع من القرن السادس.

وكان العزيز عثمان بن صلاح الدين ينوب عن أبيه بمصر حتى إذا توفّى صلاح الدين سنة ٥٨٩ أصبح العزيز عثمان سلطانها، ونرى ابن عنين يشكو منه لمطالبته بدفع ضريبة عن عروض التجارة التى يحملها إلى مصر، ولا نعرف هل هذه الشكوى كانت فى أيام نيابته عن أبيه أو فى أيام سلطنته، وهو فيها يهجوه بالشحّ بينما يمدح عمّه العزيز طغتكين بالكرم، يقول:

ما كلّ من يتسمّى بالعزيز له ... فضل ولا كلّ برق سحبه غدقه (١)

بين العزيزين بون فى فعالهما ... هذاك يعطى وهذا يأخذ الصّدقه


(١) غدقة: غزيره المطر.

<<  <  ج: ص:  >  >>