للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجعلته هذه المأثرة يشيد بالسلم والسلام، فكان بذلك شذوذا على ذوق الجاهليين وأشعارهم التى تدوّى بفكرة الأخذ بالثأر والترامى على الحرب ترامى الفراش على النار. وقد مضى يصور الحرب فى صورة بشعة، يقول:

وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم (١)

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا أضريتموها فتضرم (٢)

فتعر ككم عرك الرّحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم (٣)

فتنتج لكم غلمان أشأم، كلّهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (٤)

فتغلل لكم ما لا تغلّ لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم (٥)

وأنت تراه يصور الحرب فى صور مخيفة قبيحة، فهى تارة أسد ضار، وتارة ثانية نار مشتعلة، وتارة ثالثة رحى تطحن الناس، وتارة رابعة تلد، ولكنها لا تلد إلا ذرارى شؤم. ووسع التهكم، فقال إنهم يربحون منها ما لا يربحه أهل العراق من الغلال والدراهم. وهو بذلك يدعو إلى السلام وأن يتحول العرب من هذه الحروب والمعارك الطاحنة إلى حياة السلم الوادعة الآمنة التى تنتشر فيها الأخوة والمحبة والرحمة.

ونراه يصور ما هم فيه من بوار تصويرا بديعا، فيقول:

رعوا ما رعوا من ظمئهم ثم أوردوا ... غمارا تسيل بالرّماح وبالدّم (٦)

فقضّوا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كلأ مستوبل متوخّم (٧)

فهم بحروبهم المستعرة كأنهم يرعون مراعى وخيمة وبيلة فى سلمهم. وسرعان


(١) المرجم: المظنون.
(٢) تبعثوها: تهيجوها، تضر: من ضرى الأسد إذا تهيأ الفريسة، وأضرى: درب وعود، وتضرم: تشتعل.
(٣) تعرككم: تطحنكم؛ الثفال: جلد يجعل تحت الرحى حين تطحن، ومن أجل ذلك ذكره، يريد أنها طاحنة. وتلقح كشافا: تحمل كل عام، وذلك أردأ النتاج. تتمّ: تلد توءما.
(٤) أشأم: مشئوم؛ وأحمر عاد: أراد أحمر ثمود وهو قدار عاقر الناقة، وكان شؤما لقومه.
(٥) القفيز: مكيال فى العراق.
(٦) الظمأ: ما بين الوردين أو الشربتين، والغمار: المياه الكثيرة.
(٧) أصدروا: رجعوا ضد أوردوا، مستوبل: مستثقل، ومثلها متوخم أى إنه كريه تعلفه الإبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>