للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو الإمطار، منفصم العرى واهيه يهطل مدرارا. ويقول إنه برغمه فارقها قسرا، وهو إنما فارقها لهجوه أهلها وإفحاشه فى هجوه. ويقول إنه جاب البلاد يسعى لرزقه فكان لا يصيب منه إلا الكفاف وإلا ما يسدّ رمقه، فرزقه دائما مقتّر أو قليل، وعيشته دائما نكدة، وهواه معلق دائما بدمشق ودائما مسهّد لا يلم بجفونه الكرى أو النوم لما ملكت عليه من شغاف قلبه.

وكان شعراء الشام وأدباؤه كثيرا ما ينزلون القاهرة فى عهد الأيوبيين والمماليك ويحنّون إلى الشام وبلدانه ورياضها الفيحاء شاكين من الغربة وأن عيونهم لا تكتحل بمناظر وطنهم ومشاهده الجميلة، فضلا عن رؤية الأهل والأصدقاء. ونزل القاهرة ابن حجّة الحموى صاحب خزانة الأدب المتوفى سنة ٨٣٧ وكان أحد ندماء السلطان المؤيد وولى عدة وظائف لعهده، ويقول متشوقا إلى بلدته حماة شاكيا غربته وطول فراقه لأهله (١):

يا ساكنى مغنى حماة وحقّكم ... من بعدكم ماذقت عيشا طيّبا

أرض رضعت بها ثدىّ شبيبتى ... ومزجت لذّاتى بكاسات الصّبا

وقد التفتّ إليك يا دهرى بطو ... ل تعتبى ويحقّ لى أن أعتبا

قرّرت لى طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعى فى الخدود مرتّبا

وهو يشكو من غربته عن ملاعب صباه وشبابه وديار أحبائه فى حماة مسقط رأسه، ويعاتب الدهر الذى قضى عليه بفراقها وطول تشتته بعيدا عن قرة عينه، وإنه ليبكيها بدموع غزار.

ولذلك عاد إلى حماة بمجرد أن توفى السلطان المؤيد سنة ٨٢٣ للهجرة.

وتظل الشكوى من الزمان والناس طوال العصر، ومرت بنا ترجمة لحسين بن الجزرى أيام العثمانيين، وله يشكو شكوى مرة من الناس منشدا (٢):

قد صرت أحترز الأنام وغدرهم ... إن الطبيب يخاف مسّ الدّاء

وقطعت باليأس الرجاء لديهم ... واليأس يجدع أنف كلّ رجاء

ولطالما أصفيت قبلك خلّتى ... من لا أراه موافقا لإخائى

وبلوت منه ودّه فرأيته ... متلوّنا كتلوّن الحرباء

لقد جرب الناس طويلا فرآهم غادرين ماكرين لا يصونون عهدا ولا يحفظون ودا، فيئس


(١) خزانة الأدب ص ٤٠
(٢) ريحانة الألبا ١/ ١٢٤

<<  <  ج: ص:  >  >>