للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوعد بالخيرات والطيبات، وإنه ليأتى دائما على كل جديد وكل قرن يدّعى أنه يماثله فى القوة أو الشجاعة، فالكل أسراه: العقبان فى أجوائها العليا والعصم أو الوعول فى أعالى الجبال، فلا أحد ينجو من صولته. ويقول إنه ألف رزاياه ونكباته حتى صارت قدّا أو قيدا له ولحياته، وصار من طول ألفته لها يستحبها ويمرح فيها. ويعجب أن يكون أفضل ما فى النفس من حواس البصر والسمع وغيرهما يغتاله أو يهلكه ما سلّط عليه من آفات الهوى، ويجعلها كأنها جنود لله إذ تنتقم له من الإنسان بسوء سلوكه وأعماله. وهو لذلك يستعيذ من شرها، ويقول رب ظامئ إلى مورد يريد أن ينهل منه، فيكون فيه هلاكه. ويقول أسامة بن منقذ (١):

حذّرتنى تجاربى صحبة العا ... لم حتى كرهت صحبة ظلّى

ليس فيهم خلّ إذا ناب خطب ... قلت مالى لدفعه غير خلّى

كلّهم يبذل الوداد لدى اليس‍ ... ر ولكنهم عدى للمقلّ

فاعتزلهم ففى انفرادك منهم ... راحة اليأس من حذار وذلّ

وقد بلغ أسامة من ابتلائه للناس واختبارهم أن أصبح يمقتهم ويمقت كل ما فى العالم حتى ظله يكره أن يصحبه خوفا أن يكون فيه ما فى الناس من عدم الوفاء وخيانة الصحبة. ويقول إنه ليس فى الناس خل صادق العهد فى النعماء والبأساء، بل إذا نابت ضراء لم يسعفك ولم يساعدك، إنما يعرفك فى اليسر، أما فى العسر فلا يودّك ولا يعرف لك طولا ولا فضلا ولا يسدّ لك ثلمة ولا يقدم لك عونا، فاعتزل الناس وايأس من أن يردّوا لك معروفا أو جميلا تعش آمنا عزيزا.

ويقول ابن عنين فى التشوق إلى دمشق بعد أن ظل منفيا عنها طويلا شاكيا محزونا لغربته وما لقى فيها من ضنك العيش بعد أن طوّف فى العراق وإيران وخراسان والهند واليمن (٢):

فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الإرعاد منفصم العرى

فارقتها لا عن رضى وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيّرا

أسعى لرزق فى البلاد مشتّت ... ومن العجائب أن يكون مقتّرا

لا عيشتى تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفنى يصافحه الكرى

فهو يدعو لدمشق-وكان يكثر من الحنين إليها-أن يسقيها سحاب متواصل الإرعاد


(١) الخريدة (قسم الشام) ١/ ٥٢٥
(٢) ديوان ابن عنين ص ٤

<<  <  ج: ص:  >  >>