للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يلحّنون عليه نوائب الدهر وتغافل الممدوحين وبؤس حظوظهم فى دنياهم وما يتجرّعون من صاب الدنيا وعلقمها المرير، وما يبلون فى الناس من الطمع والحقد والأنانية مما يوهى العلاقات حتى بين الأقرباء، ويملأ النفوس شقاء وعناء والقلوب حسرات ولوعات، من ذلك قول أبى فراس (١):

أرانى وقومى فرّقتنا مذاهب ... وإن جمعتنا فى الأصول المناسب

فأقصاهم أقصاهم من-مساءتى ... وأقربهم مما كرهت الأقارب

غريب وأهلى حيثما كرّ ناظرى ... وحيد وحولى من رجالى عصائب

وأعظم أعداء الرجال ثقاتها ... وأهون من عاديته من تحارب

وهو يصور المحنة فى الناس حوله، فهم جميعا قومه يرجعون إلى أصل واحد ونسب واحد، وأقربهم منه لا يحبون له الخير، ويحبه له البعداء، مما يجعله يشعر فى عمق بالغربة بين أهله وذويه وعصاباته، ويهوله ذلك ويقلقه ويفزعه. وإنه ليوغل فى فهم الناس فيشعر بغير قليل من قلق النفس وضيق الصدر، فإن من يصادقك إنما يصادقك على الخداع، وهو لذلك ليس صديقا، بل هو أعظم أعدائك لأنك تأمنه وتجعله محل ثقتك، وهو لا يريد لك خيرا بل يريد لك الشر والأذى، وهو لذلك أعدى أعدائك، أما العدو الحقيقى فأنت تعالنه العداوة وتجاهره بالحرب والخصومة، فلن يصيبك منه أذى لأنك محترس منه دائما متق شره وخيانته وغدره. ويخاطب أبو العلاء الدهر بقوله (٢):

يا دهر يا منجز إيعاده ... ومخلف المأمول من وعده

أىّ جديد لك لم تبله ... وأىّ أقرانك لم ترده

تستأثر العقبان فى جوّها ... وتنزل الأعصم من فنده (٣)

إن زمانى برزاياه لى ... صيّرنى أمرح فى قدّه (٤)

أفضل ما فى النفس يغتالها ... فنستعيذ الله من جنده

وربّ ظمآن إلى مورد ... والموت لو يعلم فى ورده

وهو يشكو من الدهر وأنه ينجز دائما الإيعاد والإنذار بالشرور والخطوب، ويخلف دائما


(١) ديوان أبى فراس ٢/ ٢٠
(٢) سقط الزند ٢/ ١٠١٢
(٣) الأعصم: الوعل. الفند: قمة الجبل
(٤) القد: ما يقدّ من الجلد ويشدّ به الأسير

<<  <  ج: ص:  >  >>