أنها تجرى فى جسمه مجرى الروح فى الأعضاء. ومن قوله فى وصف الراح:
وبنت كرم كأنها لهب ... تكاد منها الأكفّ تلتهب
تلعب فى كأسها إذا مزجت ... كأنما يستفزّها طرب
فى عرصة الكأس حين تمزجها ... سماء تبر نجومها ذهب
وهو يتحدث عن الخمر باسم بنت الكرم، ويقول إنها حارّة كأنها لسان لهب، وإن الأكف فى زعمه تكاد تلتهب لشدة حرارتها. ويزعم أنها تلعب فى كأسها حين يمازجها الماء فيطفو حبابها وتضطرب بعض الاضطراب ويجعل للكأس عرصة أو ساحة ويقول إنها تشبه فيه-بزعمه سماء فضية من فتات التبر، نجومها-أى حبابها-ذهب. ويقول من قصيدة:
اسقيانى ذبيحة الماء فى الكأ ... س وكفّا عن شرب ما تسقيانى
إننى قد أمنت بالأمس إذ م ... تّ بها أن أموت موتا ثانى
اسقنى القهوة التى تنبت الور ... د-إذا شئت-فى خدود الغوانى
فى رياض تريك فى الليل منها ... سرجا من شقائق النّعمان
كتبتها أيدى السحاب بأقلا ... م دموع على طروس المغانى
وهو يتصور مزج الماء بالخمر إعدادا لشربها ذبحا، ويطلب إلى صاحبيه أن لا يسقياه الماء وإنما يسقيانه دم الخمر المسفوح. ويزعم أنه لا خوف عليه فقد أماته بالأمس ولن يموت ثانيا، ومثله من مدمنى الخمر يموتون مرارا. ويقول إن القهوة أى الخمر تضرّج خدود الغوانى بالخمرة فتصبح كالورد، ويقول إنه يحتسيها فى رياض تنير بها ليلا الورود المعروفة باسم شقائق النعمان. ويزعم أن أيدى السحاب كتبت تلك الشقائق بأقلام تستمد من محابر غريبة هى دموع العشاق التى استحالت دما قانيا وقد دوّنت على طروس، هى صحف المغانى أو الرياض. ودائما يعنى الوأواء فى شعره بالتصاوير والأخيلة، ومن أكبر الأدلة على ذلك بيته المشهور:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبرد
فقد استعار اللؤلؤ للدمع والنرجس للعين والورد للخد والعنّاب للأصابع والبرد للإنسان، وهى صور لا تحمل شعورا، فضلا عن وجد، غير أن معاصريه كانوا يعجبون بها عنده، وقد بنى الحريرى على هذا البيت نفسه مقامته الثانية. وذكر صاحب فوات الوفيات أنه بارح الدنيا فى عشر التسعين وثلاثمائة، وأكد أن كلمة التسعين مصحفة عن كلمة السبعين.