للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأبو العلاء يضع أمام الإنسان مصيره وأنه لا بد مفارق للدنيا الرحبة الواسعة إلى القبر الضيق المظلم. وربما كان يكنى عن كل متاع الحياة بخضر الثياب يلبسها ظاعن راحل عن دنياه إلى قبر موحش تغبّر فيه هذه الثياب وتمزّق تمزيقا. ويقول تلك نوائب تصيب النفوس فى الصميم وتحدث فيها جراحا عميقة يستعصى سبرها ومعرفة غورها على كل طبيب، ويذكر أنه لا يفكر فى طيبات الحياة ولا تمر بخاطره، إذ هو قانع بقوته وما يسدّ رمقه، ولتمتلئ سرنديب-أو كما تسمى الآن سيلان-بمغاوص لآلئها من الدرر وليكثر بغانة فى غربىّ إفريقيا التبر كما يقولون، فحسبى قوتى.

ومرّ بنا أنه كان زاهدا فى الدنيا ونعيمها، مكتفيا بالعدس والتين. ومر بنا أيضا أن ديوانه اللزوميات فى مجلدين، وقد بناه على تمجيد الله والتحذير من الدنيا ومتاعها الزائل كما قال فى مقدمته. ويقول ابن سنان الخفاجى (١):

استغفر الله القديم وعذ به ... من شرّ غاو فى الحطام منافس

وافعل جميلا لا يضيع صنيعه ... واسمح بقوتك للضعيف البائس

واقنع ففى عيش القناعة نعمة ... لا تتقى كفّ الزمان الخالس

لا تفخرنّ وإن فعلت فبالتّقى ... ناضل وفى بذل المكارم نافس

وهو يستغفر الله من شر كل غاو منافس فى حطام الدنيا ومتاعها الزائل، ويوصى بفعل الجميل ومدّ اليد بالقوت للبائس الفقير. ويوصى أيضا بالقناعة ويقول إنها نعمة لأن الإنسان معها لا يخاف على شئ يختلسه منه الزمن، ويوصيه أن لا يفتخر إلا بالتقى ولا ينافس إلا فى المكارم والمحامد.

ويقول الحسن بن طارق الحلبى من شعراء الخريدة (٢):

عمرت دار فناء لا بقاء لها ... ظنّا بأنك عنها غير منتقل

أتعبت نفسك لا الدنيا ظفرت بها ... وأنت لا شكّ فى الأخرى على وجل

دار الإقامة أولى بالعمارة من ... دار نعيمك فيها غير متصل

فاعمل لنفسك ما ترجو النجاة به ... فليس ينجيك إلا صالح العمل

وهو يزهّد فى الدنيا والعمل على تحقيق المآرب فيها مع نسيان الآخرة دار الإقامة الحقيقية التى ينبغى أن يعمل لها الإنسان، وهى حقا الأجدر بأن يقدم لها كل ما يستطيع من تقوى وعمل صالح حتى يفوز برضوان ربه.


(١) الديوان ص ٥٧
(٢) الخريدة (قسم الشام) ٢/ ١٥٨

<<  <  ج: ص:  >  >>