حماه ما كان له أمل وراء البارق النجدى، ولا كان له ولوع بورد الخدود فى رياض بيوت الحى من إضم. ويتصور كأن الأقنعة أو الحجب التى تسدل على تلك الخدود هى أكمام الورود، ويقول إن الحجب لا تستطيع أن تخفى محاسنه إذ تذوب فى سناه وضيائه المشرق. ويذكر أن أحشاءه تستشعر أوجاع حبه وأن سلامته إنما هى فى أن يموت فى حب ربه وجدا وهياما، وإلا فبقاؤه هلاكه، ويقول إن السكارى يفيقون من سكرهم، وهو لا يفيق مما شرب من دنّ هذا الحب الإلهى:
لا تحسبوا أننى عن حبّكم سالى ... وحقّكم لم يزل حالى بكم حالى
يا ساكنين فؤادى وهو منزلكم ... لا عشت يوما أراه منكم خالى
أنتم بقلبى أدنى من جوانحه ... حقّا على رغم حسّادى وعذّالى
أوضحتم لمحبّيكم طريقكم ... حاشاكم تهجرونى بعد إيصالى
وفى البيت الأول تورية واضحة فى كلمة «حالى الثانية» إذ ليس المراد معناها الظاهر كما فى «حالى السابقة» وإنما المراد أن حاله لا يزال بحبه لربه حاليا أو مزدانا بحلى بديعة. ويقول إن محبوبه الإلهى حال بفؤاده وأنه أدنى لقلبه من جوانحه وما يحيط بها من صدره، وكأنما يشير إشارة إلى فكرة الاتحاد بالذات الإلهية التى كان يؤمن بها ابن عربى. ويتضرع إلى محبوبه الربانى أن لا يهجره بعد وصله. ويقول:
يا أصيحابى بذى سلم ... من أصيحابى وما السّلم
أنا عنى اليوم فى شغل ... فاذكرونى إن نسيتكم
وأشيعوا فى الحمى خبرى ... وأذيعوا السرّ واكتتموا
لا يرانى الحبّ منثنيا ... بعد ما لاحت لى الخيم
كنت قبل اليوم فى حلم ... وتقضّى ذلك الحلم
فزمانى كلّه طرب ... دونه الأوتار والنّغم
إنه على وشك أن يتحقق أمله فى الوصول إلى محبوبه الإلهى. وهو لذلك يخاطب أصحابه بذى سلم أحد المواضع النجدية التى يذكرها أصحاب الغزل العذرى. ويرجع إلى نفسه وقد لاحت له خيام محبوبه، كما يقول، فيعلن أنه فى شغل عن أصحابه وعن السلم، وأنه لن ينثنى عن طريقه إلى محبوبه الذى طالما حلم بوصله ولقائه، وقد انقضى عهد الحلم. وهو لذلك فرح