للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«سألت عن الخبر، ممن غبر، فقال إن الحريق وقع قريبا من الجامع، وأنظر إلى شبح الجو كيف انتشرت فيه عقائق (١) اللهب اللامع، فبادرت إلى صحنه والناس فيه قطعة لحم، والقلوب ذائبة بتلك النار كما يذوب الشحم، ورأيت النار وقد نشرت فى حداد الظلام معصفرات (٢) ذوائبها، وصعدت إلى السماء عذبات ذوائبها. . وعلت فى الجو كأنها أعلام ملائكة النصر، وكان الواقف فى الميدان يراها وهى (ترمى بشرر كالقصر)، فكم زمر أضحت لذلك الدخان جاثية، وكم نفس كانت فى النازعات وهى تتلو (هل أتاك حديث الغاشية) ولم تزل النار تأكل ما يليها وتفنى ما يسفلها ويعتليها».

وواضح فى سجعاته طلبه للجناس. فهو يجانس بين الخبر وغبر، والجامع واللامع، واللحم والشحم، ويمضى فى مثل هذه الجناسات الناقصة، واشتهر لزمنه بالتصنع الشديد للجناس.

وجعلته عنايته بالجناس يستخدم كلمة ذوائبها مرة من الذوبان جمعا لذائب ومرة بمعنى مقدم الشعر فى الرأس جمع ذؤابة وجعله هذا المعنى يتصنع لذكر العذبات وهى أطراف العمائم التى تطرح عليها، وتكلف أشد التكلف حين ذكر ملائكة النصر مع هذا الحريق الذى إبتليت به دمشق وأهلها بلاء عظيما. وإنما أغراه به محاولته اقتباس الآية القرآنية (ترمى بشرر كالقصر) وهى فى وصف جهنم وما يتصاعد من شررها ووقودها كالقصر فى ارتفاع بنائه وعلوه الشاهق. وقد مضى يتصنع لذكر طائفة من أسماء السو، فذكر (الزمر) أى الجماعات و (الدخان) و (الجاثية) من الجثو وهو الجلوس على الركب من شدة الهول، كما ذكر (النازعات) والآية الأولى فى سورة (الغاشية) والغاشية القيامة.

وواضح أن المقامة أشبه برسالة اتخذت موضوعا لها وصف حريق دمشق، وأكثر المقامات حينئذ كانت على هذه الشاكلة ينقصها القصّ والحوار، وكأنها تختص بموضوع أدبى تعالجه.

وغلب عليها ذلك أيضا فى أيام العثمانيين ونلتقى فى نفحة الريحانة للمحبى بمقامة سميت بالمقامة الربيعية لعبد الرحمن بن محمد الدمشقى من بنى النقيب، وفيها تتوالى تشبيهات الزهور والطيور على هذا النحو (٣).

«نرجس نعته الفتور، وورد كأنما انتزع من أوجه الحور.


(١) عقائق: جمع عقيق وهو حجر كريم أحمر شبه به الصفدى اللهب
(٢) معصفرات: مصبوغة بالعصفر، وهو صبغ أصفر
(٣) نفحة الريحانة ٢/ ٣٥

<<  <  ج: ص:  >  >>