للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أكل وشرب ونوم، يروون الأقوال ولا يتبعون الأفعال، وافقوا أسلافهم ملبسا، وخالفوهم أنفسا». والمقامة طريفة فى عرضها لأحوال الصوفية فى تلك الأيام، وحرى بنا أن نذكر فاتحتها لنقف على أسلوب ابن الوردى فى مقاماته، يقول (١):

«حكى إنسان، من معرّة النعمان، قال: سافرت إلى القدس الشريف، سفر منكر بعد التعريف، فاجتزت فى الطريق بواد وقانا لفحة الرّمضاء (٢)، وقال: حكمت على الوادى الذى تروع حصاه حالية العذارى فقلنا دائم الحكم والإمضاء، وإذا عين كعين الخنساء تجرى على صخر، ويقول ماؤها أنا سيد مياه هذا الوادى ولا فخر، فروّيت كبد صاد (٣) من تلك العين، ولكن نغّص منظرها الحسن بذكر ظمأ الحسين».

وقد تصنع ابن الوردى فى أول مقامته لمصطلح التعريف والتنكير فى النحو، ولم يلبث أن اقتبس فى وصف الوادى ألفاظ بيتين مشهورين من الشعر فى وصف واد للمنازى معاصر أبى العلاء إذ يقول

وقانا لفحة الرّمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم

تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

واشتهرت الخنساء بكثرة بكائها على أخيها صخر فاستغلّ ابن الوردى ذلك فى التورية عن هذه العين الحقيقية التى تجرى مياهها على الصخر، ويقول إن منظرها الحسن ذكره بحادثة الحسين ومقتله فى كربلاء وطلبه الماء من أعدائه ومنعه عنه وروحه تصعد إلى بارئها. ولم نمض فى قراءة المقامة لنراه وهو يقتبس آى الذكر الحكيم ويتمثل بالأشعار والحكم والأمثال، مما جعل الكتابة حينئذ تنوء بكلف كثيرة.

وسمى ابن الوردى مقامته الثانية المقامة الأنطاكية، واتخذ فيها أيضا شخصا من المعرة يزورها ويصف محاسنها ومحاسن الطبيعة من حوله، ويحمد الله على أن ردها من حملة الصليب إلى العرب، ويأسى لما فيها من تباغض بين العرب والروم.

والمقامة الثالثة سماها المقامة المنبجية، ومنبج إحدى القرى الكبيرة فى حلب، وفيها يحكى أيضا شخص من المعرة أنه دخلها فرثى لما أصاب مساجدها وأبنيتها من دثور. وكان حملة الصليب قد استولوا عليها قديما وعاثوا فيها. ويلم ابن الوردى بمدرستها النورية، فإذا مدرسها


(١) الديوان (فى مجموعة طبعة الجوائب) ص ١٣٣
(٢) الرمضاء: شدة الحر
(٣) صاد: عطشان شديد العطش

<<  <  ج: ص:  >  >>