للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقد فإنك أنت الطاعم الكاسى

فجعل مروءته لا تبلغ به إلا أن يأكل ويلبس. وليس بين أيدينا رثاء مأثور صحيح لزهير.

ولم نتحدث حتى الآن عن أهم الموضوعات التى تتجلّى فيها براعة زهير ودقة فنه فى التصوير، ونقصد وصف الوحش والصيد، وقد أشاد القدماء كثيرا ببراعة أستاذه أوس فى هذا الباب (١)، ووقفوا عند معان وصور اقتبسها منه زهير، ولكن من الحق أنه نمّى هذا الموضوع، بحيث يعد فى الطليعة من شعراء الجاهلية فى وصف الوحش والصيد. وكأنى به كان يخبر اللغة خبرة أوسع من خبرة أستاذه، وكان له خيال دقيق ساعده على تجسيم الصور وتمثيل الحيوان بكل ما يتصل به من منظر وهيئة وحركة، وهو يعرض علينا ذلك تارة فى بيت أو أبيات قليلة، وتارة فى قطع كبيرة، وكأننا إزاء شريط يعرض فى دار من دور الخيالة، واقرأ له هذا البيت فى معلقته يصف رسوم دار صاحبته، وقد ألم بها بعد عشرين عاما، فلم يجد بها إلا بقر الوحش والظباء، يقول:

بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم (٢)

وهو بيت واحد، ولكنه عرف كيف يعرض علينا منظر البقر والظباء فى بعض مواضع البادية عرضا كاملا إذ نتمثلها وهى تمشى فى جهات متضادة، وأطلاؤها أو أولادها تنتثر هنا وهناك، ناهضة من كل موضع. وانظر إليه يصور ناقته بظليم فى بيتين، يودعهما وصفا دقيقا له إذ يعرض هيئته وسرعة حركته وذعره الدائم وانطلاقه المستمر فى الصحراء كأنه مجنون لا يلوى على شئ، يقول:

كأن الرّحل منها فوق صعل ... من الظّلمان جؤجؤه هواء (٣)

أصكّ مصلّم الأذنين أجنى ... له بالسّىّ تنوّم وآء (٤)


(١) خزانة الأدب البغدادى ٢/ ٢٣٥.
(٢) العين: بقر الوحش، والآرام: الظباء البيض. خلفة: من جهات متضادة. الأطلاء: أولاد الوحش. مجثم: مربض.
(٣) الصعل: صغير الرأس. الظلمان: جمع ظليم. الجؤجؤ: الصدر. هواء: فارغ.
(٤) أصك: مقارب العرقوبين. مصلم: مقطوع. أجنى من الجنا، وهو إدراك الثمار ونضجها. السى: موضع. التنوم والآء من أشجار البادية.

<<  <  ج: ص:  >  >>