للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصوف المتساقط من هوادجهن ورحالهن كأنه حبّ الفنا، حتى إذا انتهين إلى الماء الذى يطلبنه والمرعى الذى يلتمسنه ألقين مع عشائرهن عصا الترحال. وكان زهير يبدع فى مثل هذا التصوير الذى يعرض به عرضا حيّا مليئا بالحركة ظعن صواحبه، وهى ترحل فى الصحراء تلك الرحلة الدائبة، ومعها العشائر، طلبا للآبار ومساقط الغيث والكلأ. وهو تصوير للتصوير فحسب، فليس فيه وصف حب، إلا ما قد يأتى عفوا أو عرضا كالبيت الرابع من هذه القطعة، وكان حريّا به أن يقف ليصور جمال هؤلاء النساء وأثره فى نفسه وفى الشباب من حوله غير أن ذلك لم يكن يعنيه، إنما كان يعنيه الوصف للوصف، فهو يصور قدرته الفنية لا عواطفه ولا مشاعره. ومن غير شك كان يحسن الوصف والتصوير لا بما يسوقه من صور بيانية فحسب، بل بما يعمد إليه من رسم دقائق المنظر الذى يصفه وبما يبث فيه من حياة وحركة

ولزهير هجاء فى بعض القبائل التى كانت تغير على عشيرته، وخاصة فى الحارث بن ورقاء أحد بنى أسد الذى أغار على قبيلته ونهب غلامه يسارا وبعض أمواله، وهو فيما صح من هذا الهجاء لا يوغل فى الاقذاع وهتك الأعراض إيغال أستاذه أوس والجاهليين من حوله، بل يبقى على مهجوه وعلى نفسه، عامدا إلى السخرية كقوله فى عشيرة حصن من بنى عليم الكلبيين:

وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء

فإن قالوا: النساء مخبّآت ... فحقّ لكل محصنة هداء (١)

فهن نساء خبّئن فى الخدور، وينبغى أن يزوّجن. وهى سخرية مرة، تحمل كل ما يريد من وصفهم بالجبن. وكان يجد فى مثلها ما يكفيه عن الإقذاع المفحش. وكأنما كان الإقذاع لا يتفق ووقاره، فتحاشاه، بينما كان أستاذه أوس من جهة وتلميذه الحطيئة من جهة ثانية يقذعان فيه، وقد استعار منه تلميذه هذه الأداة أداة السخرية فأشاعها فى أهاجيه على شاكلة قوله المشهور فى الزبرقان ابن بدر:


(١) الهداء: الزفاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>