للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فردّ علينا العير من دون إلفه ... على رغمه يدمى نساه وفائله (١)

وهو فى مستهل هذه الأبيات يصف مطرا يتساقط على بعض المرتفعات والوهاد، وقد انتشر فيها النبات الضارب إلى السواد، وهو يقبل مع بعض رفاقه على فرس محكم الخلق، فطم منذ عهد قريب، فهو أشد ما يكون قوة، لم يصبه مرض ولا علة. ويعرض علينا هيئته وخلقته كاملة. وسنراه بعد قليل يصور أحاسيسه وهواجسه، فتكتمل صورتيه الجسدية والنفسية. ويستطرد إلى وصف الصيد فيذكر أن غلامه الذى ذهب يستطلع الحيوانات الوحشية فى الصحراء جاء يدبّ ويخفى شخصه ويضائله. وبهذه العبارة الموجزة رسمه لنا رسما دقيقا، رسم حركته وسيره وأنه كان يحاول أن يخفى شخصه حتى لا تفزع الوحوش. وأخبرهم أنه رأى غير بعيد ثلاث أتن وحشية، وهى ضامرة كأقواس السّراء، ومعها حمارها وقد أقبل على الطعام من النبات حتى اخضرت مشافره. واخضرار المشافر لمسة من لمسات زهير الذى كان يبتغى الدقة فى التصوير بما يعطى من ألوان الأشياء وما يذكر من تفاصيلها. وينتقل فيحدثنا أنهم باتوا يروضون الجواد، حتى كان الصباح، فألجمه الغلام، وهو لا يكاد يطوله لضخامته. وزهير يوصيه كيف يتبع فريسته.

ويبدع زهير فى هذا الجزء من وصفه، فهم منذ أخبرهم الغلام بخبر الصيد مفزّعون لشدة ما هم فيه من حرص على طلب الصيد والحصول عليه، وقد أحسّ الجواد ما هم فيه وما ينتظره فى الصباح الباكر، فأخذه الخوف من جميع أطرافه، فهو يجاهدهم وهم يجاهدونه ويضربونه، حتى اطمأن وأمكنهم منه، غير أن قلبه وأعصابه لم تطمئن، فلا يزال يستحوذ عليه الفزع والخوف الشديد. ولم يكن الغلام من هذه الحالة النفسية غير بعيد، فقد كان زهير يوصيه كيف يطارد الصيد وهو فى شغل عنه بمخاوفه وما ينتظره فى تلك المعركة. وزهير بهذا كله يعد مصوّرا بارعا، إذ يصور الهيئات الجسدية والأحوال النفسية فيما يصفه، وكأنما كانت له عين كبيرة تعرف كيف تلتقط قسمات الجسد وسرائر النفس، لا نفس الإنسان وحده بل أيضا نفس الحيوان وما يلم بهما جميعا من وساوس وهواجس. وقد مضى يصور مطاردة الغلام-ولعله غلامه يسار-للأتن وحمارها وكيف انصبّ عليها كأنه شؤبوب


(١) العير: حمار الوحش. والنسا والفائل: عرقان.

<<  <  ج: ص:  >  >>