ولعل فى هذا كله ما يدل على مبلغ الثراء، الذى كانت تحياه هذه الدولة، عن طرق مختلفة من التجارة والصناعة وخراج الأرض والجوالى، وأيضا فإن الحبوس أو أراضى الأوقاف التى أشرنا إليها فى غير هذا الموضع مضت تتزايد زيادات كبيرة، بحيث كانت مصدرا أساسيا من مصادر دخل الدولة، وكانت تضمّ إليها ضميمة أخرى من مصادرة أموال التجار أحيانا وفاء بما قد تتطلبه الحروب، وكانت مصادرة الإقطاعات مستمرة بمجرد أن يموت أصحابها. وكل هذا معناه أن دولة المماليك كانت ثرية ثراء طائلا، وهو ثراء أعدها لتنهض نهضة كبيرة بالحركة العلمية وبفن العمارة، وتكتظ القاهرة بمساجد سلاطينها وقبابها الشامخة الرائعة.
وعادت إلى مصر فى أيام هذه الدولة أعيادها الكثيرة فى العصر الفاطمى: الإسلامية والقبطية عدا الأعياد الشيعية. وأضاف المماليك عيد محمل الحج. وعادت الكرنقالات والاحتفالات الكبيرة فى هذه الأعياد ومن يتنكرون بها من أصحاب المساخر والسماجات. واتسعت فنون اللهو والتسلية، وكان الناس يخرجون للنزهة فى أمكنة كثيرة على شاطى النيل مثل الأزبكية وكان يمر بها قديما، ومثل بولاق وجزيرة الروضة. وكانوا يستأجرون القوارب والسفن الشراعية للتنزه بها فى النيل ومعهم بعض المغنين والمغنيات، واشتهر بينهم كثيرون، ويذكر ابن حجر منهم فى كتابه «الدرر الكامنة» عبد العزيز الحفنى أعجوبة زمانه فى فن الغناء و «خوبى» أعجوبة أيامها فى الضرب على العود ومحمد بن على الدهان وكان يتقن الغناء على القانون. ويذكر السخاوى منهم فى كتابه «الضوء اللامع» خديجة الرحابية. وكان هناك من يتعاطون الخمر أحيانا وكذلك الحشيش، وقد يكثر من يتورطون فى تعاطيهما فيضطر السلطان إلى الأمر بإحراق الحشيش وإراقة دنان الخمر فى كل مكان كما صنع الظاهر بيبرس. ومن ملاهيهم حينئذ النرد والشطرنج وتطيير الحمام وتهارش الديكة والصيد ورمى الطير بالبندق. وارتقى حينذاك خيال الظل وأصبح مسرحا شعبيا تاما، ويؤلف له ابن دانيال ثلاث مسرحيات ألفها فى عهد الظاهر بيبرس، وجميعها تصور مواقف ومشاهد فكاهية تثير الضحك فى المتفرجين. ويقول السخاوى إنه كان من ملاهيهم سماع سيرة عنترة وذات الهمة وأبى زيد الهلالى والظاهر بيبرس. وكأنما كتب على الشعب المصرى أن يؤدى ثمنا باهظا لمرحه ولهوه فى زمن المماليك، فإذا العثمانيون يجتاحون دياره. وتعتم سماء مصر فقد كستها سحبهم المظلمة نحو ثلاثة قرون إلا قليلا، إذ تحولت من إمبراطورية ذات سلطان وصولجان إلى ولاية عثمانية، وليس ذلك فحسب، فقد جرّدها فاتحها سليم من علمائها ورجال الفنون بها ومهرة صناعها. وتراثها الفنى وكل ما كان بها من تحف نفيسة، ويقال إنه أبطل بمصر خمسين