للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنذ الفتح الإسلامى تنشأ فى مصر وتنمو جماعات من النساك العباد تتجرد عن متاع الدنيا وتنبذ طيباتها، واقرأ فى تراجم القصاص الوعاظ والفقهاء والمحدثين والقراء والقضاة، فستجد عشرات من هذه الفئات يزهدون فى متاع الدنيا، بل يفرطون فى الزهد متحملين فى ذلك مشقات عنيفة من الجوع وغير الجوع. نذكر منهم سليمان التجيبى، وهو أول من قصّ ووعظ الناس بمصر فى زمن معاوية فإن السيوطى يذكر عنه فى كتابه حسن المحاضرة أنه كان يسمى الناسك لشدة عبادته، وكان يختم القرآن فى كل ليلة زلفى وتعبدا لربه. ومنهم المزنى صاحب الشافعى وأكثر تلاميذه تصنيفا فى مذهبه، وفيه يقول ابن خلكان فى ترجمته: «كان فى غاية الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب فى جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له فى ذلك؟ فقال: بلغنى أنهم يستعملون السّرجين (روث البهائم) فى الكيزان والنار لا تطهرها. وذكر أنه كان إذا فاتته الصلاة فى جماعة صلى منفردا خمسا وعشرين مرة أو صلاة استدراكا لفضيلة الجماعة، مستندا فى ذلك إلى قوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة».

وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة». ومنهم بكار بن قتيبة القاضى فى عصر ابن طولون، وفيه يقول ابن سعيد فى كتابه المغرب: قسم الفسطاط: «كان أحد البكّائين والتالين لكتاب الله، وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها قضايا جميع من تقدموا إليه وما حكم به وبكى خشية خطئه، وكان يكثر الوعظ للخصوم». ويورد السيوطى ثبتا طويلا بمن كان بمصر من الصلحاء والزهاد والصوفية فى كتابه حسن المحاضرة، ويذكر بينهم سيدات عابدات ناسكات فى مقدمتهن السيدة نفيسة حفيدة الحسن بن على بن أبى طالب المتوفاة سنة ٢٠٨، وكانت مقيمة فى موضع مسجدها اليوم بالقاهرة، وكان الناس يجتمعون إليها لسماع الحديث، ولما دخل الإمام الشافعى القاهرة حضر إليها وسمع الحديث عنها. ومن هؤلاء المتعبدات الناسكات فاطمة بنت عبد الرحمن بن أبى صالح المتوفاة سنة ٣١٢ وقد عاشت طويلا، ويقال إنها ظلت ستين سنة لا تنام إلا وهى فى مصلاّها بغير فراش.

وطبيعى ومصر دار كبيرة من دور الزهد والعبادة والنسك أن ينشأ فيها سريعا التصوف، ويذكر الكندى أنه ظهرت فى ولاية السّرىّ بن الحكم سنة ٢٠٠ للهجرة بالإسكندرية طائفة يسمون الصوفية يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان فى امره ترأس عليهم رجل منهم يقال له أبو عبد الرحمن الصوفى. ويمكن أن نتخذ هذه السنة تاريخا تقريبيا لظهور التصوف فى مصر.

ويروى الكندى أنه كان فى القاهرة جماعة مماثلة لعهد المامون كانت تحيط بقاضيه عيسى بن المنكدر

<<  <  ج: ص:  >  >>