تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكأن التصوف عرف فى مصر بقوة منذ أوائل القرن الثالث الهجرى. وقد أورد القشيرى فى رسالته آراء مختلفة فى اشتقاق كلمة صوفى، وهل هى من الصفاء أو من الصوف لأن الصوفية كانوا يلبسونه ويتخذونه شعارا لتقشفهم، أو هى من الصّفّة وأهلها الذين كانوا ينقطعون للعبادة فى المسجد زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولا يرجح القشيرى رأيا على آخر، وذهب البيرونى إلى أن كلمة التصوف مشتقة أو مأخوذة من كلمة صوفيا بمعنى الحكمة عند اليونان، ونظن ظنّا أنها مشتقة من الصوف لأن لبسه شاع مبكرا بين المتصوفة.
وما نمضى طويلا فى القرن الثالث الهجرى حتى نسمع بأبى حاتم العطار المصرى أستاذ أبى تراب النخشبى المتوفى سنة ٢٤٥ وأهم منه ذو النون المصرى المتوفى مع أبى تراب فى نفس السنة، واسمه ثوبان بن إبراهيم، وقيل الفيض بن أحمد الإخميمى. كان أوحد وقته زهدا وورعا وعبادة ونسكا، طلب الفقه فى أول حياته فتتلمذ لليث بن سعد فقيه الفسطاط، ثم رحل إلى الإمام مالك فى المدينة المتوفى سنة ١٧٩ فروى عنه الموطّأ، ثم نزع إلى التصوف والنسك فتتلمذ لشقران العابد. ويذهب نيكلسون إلى أنه المؤسس الحقيقى للتصوف الإسلامى مستندا فى ذلك إلى قول ابن تغرى بردى «إنه أول من تكلم ببلده فى ترتيب الأحوال والمقامات» وبذلك يجعله نيكلسون أستاذ المتصوفة جميعا-غير منازع-فى العالم الإسلامى. وينقل عن تذكرة الأولياء للجامى أنه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع، وأنه ذكر كأس المحبة الذى يسقى به الله المحبين وأنه كان يقسم المعرفة ثلاثة أقسام: قسما عاما للمسلمين جميعا وقسما خاصا بالفلاسفة والعلماء وقسما خاصا بالصوفية الذين يرون الله بقلوبهم. وبذلك ميّز المعرفة الصوفية من المعرفة العلمية والفلسفية، فالأولى قلبية تعتمد على البصيرة والحدس، والثانية عقلية تعتمد على التفكر والمنطق، ومعنى ذلك أن التصوف ليس فلسفة ولا علما ولا فكرا وإنما هو أحوال ومقامات وهو-بذلك-إن صح أن يسمى علما، علم باطن مقصور على الخواص. ودائما كان يفرّق بين الخواص وهم المتصوفة وبين العوام أو عامة المسلمين بمثل قوله:«توبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة» وكان يقول: «ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عن الله بالغفلة». وكان يقول أيضا:«الصوفى من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق». وكان يكثر من الحديث عن مبدأ التوكل الصوفى على الله قائلا: علامة التوكل انقطاع المطامع. وكان يقول: «من علامات المحب لله متابعة حبيب الله (أى رسوله) فى أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه». وفى هذا القول ما يدل