للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بوضوح على أن التصوف عنده لم يحدث بينه وبين الشريعة أىّ انفصام وأن ما ذكره الهجويرى فى كشف المحجوب من أنه كان من الملامتية الذين يتظاهرون بالاستخفاف بأمور الشريعة عار عن الصحة، فالتصوف عنده لا يقوم بدون الشريعة، والحياة الصوفية لا تتحقق بدون الفرائض والسنن الشرعية. واستحضره الخليفة المتوكل من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل وردّه مكّرما، وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع يبكى ويقول: حىّ هلا بذى النون. ويقال إنه كان على معرفة بعلم الكيمياء.

ويذكر القشيرى فى رسالته والهجويرى فى كتابه كشف المحجوب وغيرهما طائفة من تلاميذه الصوفية من أعلام القرن الثالث، منهم ابن الجلاّء شيخ مشايخ الشام ويوسف بن الحسين الرازى شيخ مشايخ إيران والجنيد شيخ مشايخ بغداد وزميله الخرّاز وهو أول صوفى تكلم فى الفناء وسهل بن عبد الله التّسترى شيخ الحلاج الصوفى المشهور. وفى ذلك ما يشهد بأن أثر ذى النون ومصر فى التصوف وتاريخه كان أثرا بعيدا وعميقا إلى أقصى حد. ويشتهر بعده غير صوفى بمصر، ويفد عليهم كثيرون من متصوفة البلدان الأخرى طوال القرن الثالث، ونذكر من متصوفتها حينئذ أبا بكر الدقاق المتوفى سنة ٢٩٠ واشتهر أحد صوفّيتها وهو بنان الحمّال المتوفى سنة ٣١٦ بكثرة كراماته، ومن صوفيّتها أبو على الروذبارى المتوفى سنة ٣٢٢. ويقول ابن سعيد فى المغرب قسم الفسطاط: كان الإخشيد يحب الصالحين ويركب إليهم ويطلب دعاءهم، وأنه ركب إلى رجل صالح بالقرافة يسمى ابن المسيّب وسأله الدعاء، وأنه كثيرا ما كان يلم بأبى سهل بن يونس ويطلب منه الدعاء فى خشوع متبرّكا به.

وتدخل مصر فى أيام الفاطميين، ويبدو أنهم لم يكونوا يهتمون بالصوفية لسبب مهم وهو أن كلا منهم كان يزعم لنفسه علم الباطن، وكان الصوفية يقولون بحق إن علمهم ينبع من القلب ومن التأمل الباطنى، وزعم الفاطميون لأئمتهم أنهم أصحاب علم لا يشركهم أحد فيه، فأدى ذلك إلى شئ من التعارض بين الطرفين، وبذلك انصرف الفاطميون عن الاهتمام بالتصوف وأهله.

وفى هذه الأثناء حدث صدع كبير بين الفقهاء والمتصوفة وخاصة فى المشرق: فى العراق وإيران إذ رفع المتصوفة أنفسهم فوق الفقهاء درجات، وقالوا إن الأهم فى الحياة الدينية عمل القلب لا عمل الجوارح والنهوض بالفرائض الدينية، بل إن منهم من أهمل هذه الفرائض، مما جعل الفقهاء يحملون عليهم حملات عنيفة. وتنبه القشيرى والغزالى إلى خطورة هذا الصّدع فى بنيان الحياة الدينية وحياة الأمة، فعملا بقوة على رأبه، بحيث لا يكون المتصوف متصوفا حقا إلا إذا

<<  <  ج: ص:  >  >>