للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أدّى الفرائض والسنن الدينية، ولا بد للفقيه فى هذه السنن والفرائض من الإخلاص وصفاء القلب وصدق الشعور الباطنى.

وبذلك عادت إلى صفوف المتصوفة والفقهاء-بل إلى صفوف الأمة-الوحدة، ودعمها ووثقها حدث خطير هو اجتياح حملة الصليب لديار الإسلام فى الشام والموصل منذ أواخر القرن الخامس الهجرى، فوقفت الأمة جميعها بنيانا مرصوصا ضد أعداء الإسلام، حتى يذيقوهم وبال عدوانهم ويسحقوا جموعهم سحقا. وحمل المتصوفة والفقهاء السلاح وتقدموا صفوف المجاهدين، وبذلك نفهم عناية صلاح الدين بهم جميعا، فقد أخذ يقيم المدارس للفقهاء، كما أخذ يعنى بإقامة الزوايا للمتصوفة، واتخذ لهم فى القاهرة دارا كبيرة من دور الفاطميين كانت تسمى دار سعيد السعداء، جعلها لهم «خانقاه» ومعناها بالفارسية دار عبادة، يعبدون فيها الله وينسكون.

وفتح أبوابها للصوفية الواردين على القاهرة من العالم الإسلامى منذ أنشأها فى سنة ٥٦٩ وهى أول خانقاه أقيمت للصوفية بمصر، ووقف عليها بستانا وعقارات تكفل نفقاتها عن سعة، وجعل لها شيخا سمّى شيخ الشيوخ، ورتّب للصوفية فيها كل يوم طعاما ولحما وخبزا، وبنى لهم حماما وأجرى عليهم الجرايات، ورسم لهم رسما: أن من ترك منهم عشرين دينارا فما دونها كانت لمتصوفتها وأن من أراد منهم السفر يعطى ما يكفل له سفره، وكانوا يخرجون منها كل يوم جمعة للصلاة فى الجامع الحاكمى فى مشهد مهيب، فشيخهم يتقدمهم وبين يديه خدام المصحف الشريف، وقد حمل المصحف على رأس أكبرهم والصوفية وراءه ماشون بسكون وخفر، حتى إذا صلوا الجمعة عادوا إلى الخانقاه بنفس المشهد الرائع.

وأخذ التصوف من حينئذ يزدهر فى مصر، واتضح فيه اتجاهان: اتجاه فردى فلسفى، واتجاه جماعى سنّى، ويمثل الاتجاه الأول ابن الفارض سلطان العاشقين للذات الإلهية، وهو يصور فى شعره وجده وهيامه بربّه وأحواله فيه ومقاماته ومدى ما نعم به فى شهوده، مع مدحه للرسول الكريم، وقد رفع حقيقته المحمدية لواء يتجمع حوله المسلمون ليسددوا للصليبيين الضربة القاضية.

وكان يقابل هذا المنزع الصوفى الفلسفى الفردى المنزع الصوفى الجمعى، وقد هيأت له خانقاه صلاح الدين السالفة الذكر، وكان كثيرون منهم قد أقبلوا من العراق والشرق يحملون مبادئ طريقتين من طرق التصوف السنى، هما الطريقة القادرية للشيخ عبد القادر الجيلانى البغدادى المتوفى سنة ٥٦١ والطريقة الرفاعية لمواطنه ومعاصره الشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة ٥٧٨، وأخذت الطريقتان تشيعان بين المتصوفة المصريين، وما نمضى فى القرن السابع طويلا حتى ينزل

<<  <  ج: ص:  >  >>