للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جوانب الحياة العقلية، وهو ما تنقضه الحقائق السابقة نقضا، وسيتضح هذا النقض بصورة أدق حين نعرض فى الفصول التالية لوجوه النشاط العلمى، فسنرى أن مصر لم تشهد حقبا علمية مزدهرة بمقدار ما شهدت فى زمن المماليك، وكان كثير منهم مثقفين مثل الأيوبيين، وعملوا على إذكاء النهضة العلمية بما أنشأوا من المدارس وما ألحقوا بها وبالمساجد من المكتبات وما رصدوا لها من أوقاف كثيرة تكفل للعلماء والطلاب حياة علمية خصبة.

ويكتب لهذه الحركة العلمية العظيمة أن تتوقف ويصيبها غير قليل من الخمود إذ احتلت جحافل العثمانيين مصر، وجرّدها السلطان العثمانى الفاتح سليم من كثير من علمائها وقضاتها وحشدهم فى السفن إلى عاصمته إستانبول. وجرد بعض المدارس من أعمدتها ورخامها الملون وكتبها النفيسة، وما توافى سنة ٩٢٨ حتى تلغى وظائف قضاة المذاهب الأربعة التى كانت قائمة بالقاهرة منذ عهد الظاهر بيبرس ويحل محلهم قاضى العسكر. وكل ذلك عمل على انتكاس الحركة العلمية بمصر، ومع ذلك ظلت جذوات منها تتقد فى الجامع الأزهر وفى بعض المدارس، إذ نسمع فى ترجمة هذا العالم أو ذاك أنه كان يدرس فى المدرسة السيوفية الحنفية التى أنشأها صلاح الدين أو فى المدرسة الصالحية التى أنشأها السلطان الصالح نجم الدين أيوب أو فى المدرسة الأقبغاوية التى أنشئت فى عهد الناصر محمد بن قلاوون، ويذكر الجبرتى مدارس لم يذكرها المقريزى فى خططه مثل المدرسة الغورية التى أنشأها السلطان الغورى، ومثل المدرسة السنانية (١)، ويردد ذكر القطبانية والجنبلاطية والأشرفية (٢)، وأكبر الظن أنها كانت مدارس ناشطة هى الأخرى.

ومع ما أصاب مصر وحركتها العلمية من الفتح العثمانى الذى جثم على صدر البلاد وكان عاملا مهما فى خمود الدراسات العلمية بها، فإن مصر ظلت ملاذا للعلماء من جميع الأقطار العربية من الخليج إلى المحيط، وظلت القاهرة موئلهم جميعا يفدون عليها للتعلم فى الجامع الأزهر والاختلاف أحيانا إلى بعض المدارس، حتى إذا نضج أحدهم علميا أصبح شيخا يتحلق حوله التلاميذ فى الجامع الأزهر أو فى أحد جوامع القاهرة ومدارسها، وقد يرجع إلى بلده يعلم فيها ما تلقن على شيوخه فى الأزهر، وكان قد أصبح منذ عصر المماليك أكبر جامعة إسلامية. ونذكر من مشهوريهم ابن طولون الدمشقى المؤرخ وعبد القادر البغدادى صاحب الموسوعة الأدبية المعروفة


(١) تاريخ الجبرتى (طبعة بولاق) ١/ ١٦٢ و ٢٢٠.
(٢) الجبرتى ١/ ٧٥، ٨٦، ٢٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>