للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام وكان يتجنب وحشىّ الشعر ولم يمدح أحدا إلا بما فيه (١)». والمعاظلة بين الكلام المداخلة فيه بحيث لا ينضّد نضدا مستويا. والحق أن صياغة زهير تستوفى حظوظا بديعة من صفاء التعبير ونقائه وخلوصه من الأدران التى قد تؤذيه، وارجع إلى القطع التى أنشدناها له فى المديح، فإنك ستجدها متوهجة، وما ذلك إلا من دقة التعبير وصقله إلى أبعد غاية وصل إليها شاعر جاهلى. والذى لا ريب فيه أنه كان يستولى على لغته ويسيطر عليها ويجمع منها خير ما فيها من ألفاظ وكلمات، وما يزال ينسّقها حتى تتراءى كأنها عقود من الجواهر. وعلى نحو ما كان يستوفى حظوظا مختلفة من الجمال فى عباراته وصيغه كان يستوفى ضروبا من الإتقان والكمال فى موسيقاه، فليس فيها نشاز من إقواء وليس فيها اجنلاب قافية وإكراهها على إحلالها فى أماكنها، فقوافيه تتمكن فى مواضعها، ومهما ضاق عليه هذا الموضع نفذ منه على أجمل صورة، وانظر إلى قوله فى معلقته:

وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عمى

فقد وصل إلى القافية، فوجد نفسه مضيّقا عليه، ولم يلبث أن نفذ إلى كلمة «عمى» فتمم البيت فى غير عسر ولا مشقة. ومن ذلك قوله:

هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا ... لا ينكصون إذا ما استلحموا وحموا (٢)

فقد نفذ من الدرب الضيق فى القافية، بما جاء به من كلمة «حموا» ولم ينفذ فحسب، فقد استخدم كلمة تتناسق فى حروفها مع الفعل السابق لها، فهى كلمة من نفس أسرتها، وهو ما يعبر عنه علماء البيان العربى باسم الجناس، وله أمثلة مختلفة فى شعره كقوله الذى أنشدناه:

كأن عينى وقد سال السّليل بهم ... وجيرة ما هم لو أنهم أمم

فقد جانس بين سال والسليل، وتعلق بحرف الميم فى ألفاظ الشطر الثانى، فأحدث بينها تلاؤما واضحا. ومن أمثلة الجناس عنده:

وقد قلتما إن ندرك السّلم واسعا ... بمال ومعروف من القول نسلم


(١) أغانى ١٠/ ٢٨٩.
(٢) حبيك البيض: طرائقه. البيض: خوذهم فى الحرب. استلحموا: من التلاحم والمخالطة فى القتال. حموا: اشتد غضبهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>