والقبائل الكبيرة، وقد عقد المعاهدات مع الفرس والروم، ولم يبلغ ملك مبلغه فى القوة. وليس هذا كله ما يحدثنا به النص ولا كل دلالته، فوراء ذلك دلالة أعمق، إذ يقول هذا الملك ملك العرب كلهم، وتلك-ولا ريب-أول محاولة فى إيجاد وحدة سياسية للعرب الشماليين، بعد أن دمر الرومان دولتيهم فى بطرا وتدمر. على أن إمارة الحيرة لم تلبث أن خضعت للفرس، وقد خضع الغساسنة فى الشام للبيزنطيين وأخذت البعثات المسيحية تغزو الشمال فى غربيه وشرقيه. ولعل ذلك ما جعل العرب يلتفون حول مكة، وخاصة بعد أن فقدت اليمن استقلالها واحتلها الحبشة ثم الفرس. وقد نقلوا إليها من الجنوب والشمال أصنامهم، فكانت دار كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وأخذت تقوم بما كانت تقوم به اليمن من نقل التجارة وعروضها بين المحيط الهندى وحوض البحر المتوسط.
ونمضى بعد نقش النمارة نحو مائة وثمانين عاما، فنلتقى فى زبد الواقعة جنوبى شرق حلب بنقش وجد على باب أحد المعابد هناك أرّخ سنة ٥١٢ م وفيه نرى خصائص الكتابة العربية الجاهلية تتكامل. ومن غير شك حدثت تطورات متعددة بينه وبين نقش النمارة، أعدّت لهذه الصيغة العربية الخالصة التى نجدها فيه أو بعبارة أدق فى خطّه. وعلى شاكلته نقش حرّان اللّجا الذى عثر عليه فى الشمال الغربى لجبل الدروز جنوبى دمشق وهو مؤرخ بسنة ٥٦٨ م.
ومعنى هذا كله أن الخط العربى نشأ وتطور شمالىّ الحجاز، وأنه لا يرجع فى نشأته وتطوره إلى بلاد العراق، فتلك الوثائق السابقة دليل لا يرقى إليه الشك فى أنه نشأ من الخط النبطى وتطور حتى أخذ صيغته النهائية فى أوائل القرن السادس الميلادى فى تلك البيئة الوثنية العربية الخالصة. وهو يختلف اختلافا تامّا عن الخط الكوفى ذى الزوايا الذى يرسم فى أشكال مستديرة. فالحجاز هو موطنه، وهو الذى نشره فى محيط العرب الشماليين على طول الدروب والطرق التى كانت تسلكها قوافل المكيين التجارية.