للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حين تعبر عن فتوح وانتصارات جديرة بأن يسجّلها الشعراء ويتغنّوها، وهى تضعف حين تعبر عن زلفى وما يتصل بالزلفى من رياء. ومعنى ذلك أنه توجد للمديح فى الشعر العربى قصيدتان لا قصيدة واحدة، قصيدة ذات موضوع واضح، وقصيدة ليس لها موضوع واضح، ومن الضرب الأول مدائح أبى تمام فى قواد الدولة العباسية وحروبهم فى خراسان وفى آسية الصغرى، ومنه أيضا مدائح المتنبى فى سيف الدولة وانتصاراته المجيدة ضد البيزنطيين. ومن الضرب الثانى مدائح مهيار وغيره من الشعراء للخلفاء والوزراء والحكام فى المناسبات والأعياد المختلفة. وفرق بعيد بين الضريين، ففى الضرب الأول نقرأ حقائق واقعة، بل يقرأ العرب تاريخهم فى صورة رائعة من الغناء والشعر، أما فى الضرب الثانى فلا نقرأ حقائق ولا ما يشبه الحقائق، ولا يقرأ العرب تاريخهم حربيا أو غير حربى، إنما يقرءون ملقا وتزلفا ورياء.

ويمكن أن ندخل مدائح المهذب بن الزبير للوزير طلائع بن رزّيك فى الضرب الأول، لأنه ملأ أيامه ببطولة محققة فى حرب الصليبيين وردّهم عن بعض حصون فلسطين، وفى كتاب الروضتين فى أخبار الدولتين للمقدسى ما يصور ذلك. فقد كانت الجيوش المصرية فى أيام وزارته ماتنى تنازل الصليبيين فى العريش وغزّة وعسقلان، وكان الأسطول المصرى يقوم بدور مهم فهو يفزعهم فى «صور» و «عكا» وهو يقطع على بعض سفنهم فى البحر المتوسط طريقها إلى الموانى الشامية والفلسطينية. وكان طلائع يقود بنفسه بعض جيوشه البرية، وينتصر على الصليبيين فى عسقلان وغير عسقلان، والمهذب شاعره يتغنى بانتصاراته مبتهجا بمثل قوله:

لما أبوا ما فى الجفان قريتهم ... بصوارم سلّت من الأجفان (١)

وثللت فى يوم العريش عروشهم ... بشبا ضراب صادق وطعان (٢)

ألجاتهم للبحر لما أن جرى ... منه ومن دمهم معا بحران

ولأنت تخضب كلّ بحر زاخر ... ممّن تحارب بالنّجيع القانى (٣)

حتى ترى دمهم وخضرة مائه ... كشقائق نثرت على الرّيحان

وكأنّ بحر الروم خلّق وجهه ... وطفت عليه منابت المرجان (٤)


(١) الجفان: جمع جفنة وهى قصعة الطعام والأجفان: جمع جفن وهو غمد السيف.
(٢) شبا: جمع شباة، وهى حد السيف.
(٣) النجيع: الدم. القانى: شديد الحمرة.
(٤) خلّق وجهه: طيب بالخلوق وهو الزعفران.

<<  <  ج: ص:  >  >>