حوالى سنة ٧١٠ وينزل دمشق، ويأخذ الطلاب عنه الحديث (١)، ويستقر بها ويتولّى فيما بعد مشيخة الحديث بالمدرسة الظاهرية هناك. ولعل ارتحال أبيه عن مصر هو الذى حبّب إليه الرحلة وراءه إلى دمشق واتخاذها منذ سنة ٧١٦ دار مقام له، وظل بها مدة تقارب نصف قرن أو بعبارة أدق نحو خمسة وأربعين عاما، وقد ظل يحن إلى مصر حنينا متصلا بمثل قوله:
آه لمصر وأرض مصر وكيف لى ... بديار مصر مراتعا وملاعبا
حيث الشبيبة والحبيبة والوفا ... فى الأقربين مشاربا وأصاحبا
والدهر سلم كيفما حاولته ... لا مثل دهرى فى دمشق محاربا
وفؤاده يهفو إلى مصر وتراب مصر ونيل مصر ورياض مصر ومراتع صباه بها وملاعبه، ويقول إنها ديار شبابه وحبه وديار الوفاء فى الأقرباء وغير الأقرباء وديار الأمن والسلام ونعيمه.
وفى أثناء مقامه بدمشق كان يتردد على حلب، وبالأخص على حماة وصاحبها المؤبد أبى الفداء الذى استقبله أروع استقبال، وقرر له راتبا سنويا: ستمائة درهم غير ما كان يسبغه عليه من العطاء كلما قدم عليه بمدحة من مدائحه، وظل يفد عليه حتى توفى سنة ٧٣٢ فوفد على ابنه الأفضل من بعده.
وفى دمشق والشام تفجر ينبوع الأشعار عند ابن نباتة حتى أصبح-كما يقول ابن كثير والسبكى-حامل لواء الشعر فى زمانه، غير منازع ولا مدافع. وأروع أيامه حينئذ أيام اتصاله بالسلطان المؤيد، ونراه لا يكتفى بما يقدم إليه من مدائح، بل يؤلف الكتب باسمه ويهديها له مثل كتابه «سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون» وهى الرسالة الهزلية، ومثل كتابه «مجمع الفوائد». وكان قد قرظه كثيرون من فضلاء دمشق وعلمائها وأدبائها، مما جعله يؤلف فيهم كتابه «سجع المطوق» مترجما لهم، وهو كتاب نفيس لا يزال مخطوطا. ونراه فى هذه الفترة: فترة اتصاله بالسلطان المؤيد وثيق الصلة بشيوخ دمشق وأعلامها، من مثل ابن الزّملكانى وابن صصرى القاضى والشهاب محمود شاعر الشام وتقى الدين السبكى وابنه تاج الدين وابن فضل الله العمرى، وله فيهم جميعا مدائح بديعة. وكان ابن فضل الله يتولى كتابة السر فى دمشق، فكان
(١) انظر ترجمته فى الوافى بالوفيات ١/ ٢٧٠ والدرر الكامنة ٤/ ٢٩١