وإنما تمثلنا بهذه الأبيات جميعها من الأرجوزة لندل على أن أرجوزة الطرد والصيد المليئة بالألفاظ الغريبة عند أبى نواس ومن جاءوا بعده استحالت إلى هذه اللغة السهلة عند ابن نباتة بفضل مهارته الأسلوبية، والأبيات محملّه بصور بديعة، فمقلة الصقر كأنها شعلة نار ومخلبه كمنجل يحصد من الطير الأعمار، وكل كلب سلوقى يعض بأسنانه الحادّة ويخطو بسيقان كأنها القنا أو الرماح القاتلة. وختم الأرجوزة بمديح الأفضل وبحق سماها:«نظم السلوك فى مصايد الملوك».
وممدوحه الثالث السلطان الناصر حسن، مدحه بأخرة من حياته حين ألقى عصاه بالقاهرة، وليس فى مديحه له الحرارة التى ألفناها فى مديح الأفضل وأبيه المؤيد، وقد يكون ذلك لتقدم سنه، وله بقول:
يا ناصر الدين والدنيا لقد نفذت ... أقلام مدحك فى الدنيا بسلطان
دانت لك الخلق من بدو ومن حضر ... وفاض جودك فى قاص وفى دانى
هذى المدائن من أقصى مشارقها ... لمنتهى الغرب فى طوع وإذعان
وله وراء مديح السلاطين والأمراء والعلماء والكتّاب مديح نبوى رائع. وبينه وبين صلاح الدين الصفدى محاورات ومراسلات ومعاتبات، وأرسل إليه الصفدى قصيدة عتاب جعل شطورها الثانية أعجاز معلقة امرئ القيس، مفتتحالها بقوله:
أفى كل يوم منك عتب يسوءنى ... كجلمود صخر حطّه السّيل من عل
ولعله كان يعاتبه لتسجيله عليه سرقاته منه فى كتابه «خبز الشعير» السالف. وصنع ابن نباتة صنيعه فرد عليه بقصيدة من نفس الطراز شطورها الثانية مقتبسة من نفس الشطور فى معلقة امرئ القيس استهلّها بقوله:
فطمت ولائى ثم أقبلت عاتبا ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل
وابن نباتة كثير الشكوى فى شعره من بؤسه ورقة حاله، وربما صدق ذلك على أيامه قبل لقاء السلطان المؤيد الذى غمره بنواله، وربما كان لكثرة عياله أثر فى ذلك، بل إنه يعلن هذه الكثرة فى مثل قوله: