للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسفل من البؤس والشقاء وكأنه فى أرجوحة ما يزال صاعدا هابطا وما تزال الأرزاء والكوارث تنزل به بل تلطم فؤاده لطما عنيفا.

ويلقانا بأخرة من الدولة الفاطمية داود بن مقدام من أهل المحلة شمالى طنطا ويقول العماد:

كان منحوس الحظ غير مبخوت، منكوب الجاه بحرفة الأدب منكوت، وينشد له (١):

لقد بكرت تلوم على خمولى ... كأن الرزق يجلبه احتيالى

وكم أدليت من دلو ولكن ... بلا بلل يردّ على قذالى (٢)

وكم علّقت أطماعى رجاء ... بخلّب بارق ووميض آل

ولا أنا بالكفاف النّزر راض ... ولا أنا عن طلاب الكثر سال

فصاحبته تلومه على خموله وأنه يقعد عن طلب الرزق، ومفتاحه ليس فى يده، وطالما أدلى بدلوه مع طلابه فعادت دلاؤهم ملاء، وارتد عليه دلوه فارغا، وكأنما يتعلق ببرق كاذب وسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وهو مع ذلك لا يزال يطمع فى الكثير وكان حريّا به أن يرضى بالنزر القليل.

وتخفّ الشكوى على ألسنة الشعراء فى زمن الدولة الأيوبية وانتصاراتها المدوية، إلا فى بعض لحظات تعسة قد تمر بالشاعر فيشكو شكوى عارضة كقول ابن سناء الملك (٣).

يا خيبة الحرّ الذى ... لم يلق فوق الأرض حرّا

وإذا اشتكى فقرا أسا ... ل الدمع من عينيه تبرا

والخلق تذرى الدمع ما ... ء وهو يذرى الدمع جمرا

وإذا تملّكت اللئا ... م فإن موت الحرّ أحرى

ولا أظن أن ابن سناء الملك اشتكى الفقر والبؤس يوما، فقد كان يعيش فى بحبوحة من الترف والنعيم، ولذلك نظن أنه قال قصيدة هذه الأبيات فى لحظة من لحظات غضبه، وهى فعلا أبيات عارضة فى ديوانه الضخم.

ويعود الشعراء إلى الشكوى فى أيام المماليك والحديث عن بؤسهم، وكانوا يمزجون هذا الحديث بخفة الظل التى عرف بها المصريون، حتى لتصبح الشكوى ضربا من الفكاهة أحيانا على


(١) الخريدة ٢/ ٤٦.
(٢) القذال: القفا.
(٣) الديوان ص ٣٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>