افتتحها بذكره قائلا: «من الأفاضل الأعيان، المعدودين من حسنات الزمان، ذو الأدب الجم والعلم الواسع، والفضل الباهر والنثر الرائع، والنظم البارع، وله فى سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى، والرتبة الأولى» ويبدو أنه كان واسع الثقافة. ويقول الأدفوىّ صاحب الطالع السعيد:
«أكثر شعره فى تشكى الزمان والإخوان». وكان قد قصد الأفضل فى أول الأمر راجيا خدمة عنده أو ولاية فخاب أمله فيه وضاع رجاؤه، فقال من قصيدة يعاتب فيها الزمان ويشكو الخيبة والحرمان:
بين التعزّز والتذلل مسلك ... بادى المنار لعين كل موفّق
فاسلكه فى كل المواطن واجتنب ... كبر الأبىّ وذلّة المتملّق
ولقد جلبت من البضائع خيرها ... لأجلّ مختار وأكرم متّق
ورجوت خفض العيش تحت رواقه ... لابدّ إن نفقت وإن لم تنفق
ظنّا شبيها باليقين ولم أخل ... أن الزمان بما سقانى مشرقى (١)
لأقارعنّ الدهر دون مروءتى ... وجرمت عزّ النّصر إن لم أصدق
وهو ينصح غيره من الشعراء أن لا يصعّروا خدهم كبرا، وأهم من ذلك أن لا يسيموا أنفسهم ذل الملق والهوان، وليتخذوا منه ومما صنع به الأفضل عبرة وعظة، إذ قدم له بين يدى ما أمّله منه قصيدة بديعة من قصائده، فكان جزاؤه خيبة ما بعدها خيبة، ومع ذلك فهو يمسك نفسه، إذ هى أكبر من أن تنكسر، بل إنه ليهدد بمقارعة الدهر ونزاله دون مروءته وعزة نفسه.
وفزع إلى غير قليل من الزهد والقناعة يحض عليهما ويذم الضراعة، متأسفا على امتهان نفسه وإراقة ماء وجهه للأفضل دون طائل بمثل قوله:
لهفى لملك قناعة لو أننى ... متّعت فيه بعزّة المتملّك
ولكنز يأس كنت قد أحرزته ... لو لم تعث فيه الخطوب وتفتك
آليت أجعل ماء وجهى بعده ... كدم يهلّ به الحجيج بمنسك
لا أنشأتنى الحادثات لمثلها ... ورميت قبل وقوعها بالمهلك
لقد أضاع ملك قناعة كان هنيئا به متمتعا فيه بعز سلطانه، وأضاع معه كنز يأس من الوزراء والحكام أمثال الأفضل كان مغتبطا به سعيدا، ويقسم أن لا يريق ماء وجهه لأحد بعد الأفضل
(١) مشرقى: جاعلنى أغصّ بما سقانى.