وما صنعه، ويدعو على نفسه بالموت إن هو فكر أن يعود إلى المديح وهوان الاستجداء وذله، ويتجه إلى ربه داعيا ضارعا بمثل قوله:
يا مستجيب دعاء المستجير به ... ويا مفرّج ليل الكربة الدّاجى
قد أرتجت دوننا الأبواب وامتنعت ... وجلّ بابك عن منع وإرتاج
نخاف عدلك أن يجرى القضاء به ... ونرتجيك فكن للخائف الراجى
فقد أغلقت أبواب الرجاء من دونه، وأظلمت الدنيا من حوله، وغرق فى كرب وغمّ، وأخذه اليأس من كل جانب، فلا أمل، بل قنوط مقيم، حتى ليخشى على نفسه من أن يغلق الله عنه بابه، وإنه ليمتلى خوفا ورجاء. ويعزى نفسه ويدعوها إلى الصبر الجميل:
يا نفس صبرا واحتسابا إنها ... غمرات أيام تمرّ وتنجلى
لا تيأسى من روح ربّك واحذرى ... أن تستقرّى بالقنوط فتحذلى
إنه يتمنى لنفسه أن تخلص من محنة اليأس الذى يملؤها شقاء وعناء ومسرة ولوعة، فيخفف عنها ذلك كله أو يحاول أن يخففه بما يدعوها إليه من الصبر على البلاء وأن لا تيأس من روح ربها فإنه لا ييأس من روحه إلا الظالمون لأنفسهم المستسلمون للقنوط وأهواله.
وكان على بن النضر يجيد الرثاء كما يجيد الشكوى من الزمان وأهله، وله مرثية بديعة فى إبراهيم ابن الزبير حاكم قوص لسنة ٤٧٢ للهجرة وهو جد المهذب بن الزبير الشاعر المار ذكره، استهلها بقوله:
يا مزن ذا جدث الرّشيد فقف معى ... نسفح بساحته مزاد الأدمع (١)
وامسح بأردان الصّبا أركانه ... كى لا يلمّ به شحوب البلقع
وبودّ نفسى لو سقيت ترابه ... دم مهجتى ووقيته بالأضلع
وهو يتجه إلى المزن أو السحاب الممطر محاولا أن يستوقفه ليسفح أمطاره معه على قبر صاحبه، بل ليسفحا معا عليه قربانا من الدموع، ويتوسل إليه أن يمسح بأكمام الصّبا أركانه، حتى يظل ناضرا لا يلم به شئ من شحوب البلقع أو القفر من حول جدثه، وكان بود نفسه لو فداه بروحه وسقى ترابه دم مهجته ووقاه بأضلعه، ويخاطب قبره ملتاعا بقوله:
(١) مزاد: جمع مزادة وهى القرية.