للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مما مرّ بنا فى غير هذا الموضع من أنه كان حاضرا وقعة الظاهر بيبرس مع التتار على شطّ الفرات سنة ٦٧١ وكيف أنه صوّر انتصاره تصويرا رائعا.

وحانت منه التفاتة فيما يبدو إلى جندى قبل المعركة كان فى الساقة وعرف أن له نظراء لا يوضعون فى مقدمة الجيش وإنما يوضعون فى مؤخرته، أو لعله إنما التفت قبل كل شئ إلى نفسه، فتأثر وبلغ به التأثر حدا بعيدا من الإحساس بالظلم، وإذا هو ينشد فى ألم بالغ:

نحن إلا قطاعة الأجناد ... وبرايات غرّ هذا النادى (١)

نحن إلا حكاية وخيال ... وحديث لحاضر ولبادى

نحن إلا غسالة لمراق ... لقدور تفرّغت وزبادى

نحن إلا زبالة ضمّها الزّبّ‍ ... ال فوق الأكوام للوقّاد

جرّدونا فما قطعنا فردّو ... نا-وقد أحسنوا-إلى الأعماد

وعرضنا على براذين جيش ... ما استعدّت لحملة وطراد (٢)

ورماح لم تعتقل لطعان ... وسيوف ما جرّدت لجلاد

فهى لا فرق فى يد الفارس الكش‍ ... حان منّا أو فى يد الحداد

ويبدو أنها شكوى بلسان فريق من الفرسان، ممن وضعوا فى مؤخرة الجيش الذى يقوده الظاهر بيبرس لحرب التتار يريدون أن يكونوا فى أول الصفوف لمنازلة العدو التتارى ودحره دحرا لا تقوم له قائمة بعده، ويسوق ابن النقيب الشكوى فى مرارة، إذ يقول على لسان هؤلاء الفرسان متهكما: ما نحن إلا نحاتة الأجناد بل نحن حكاية وخيال وحديث مردد، بل غسالة لمراق بل زبالة، ولعله يبالغ فى تصوير ما أصاب هؤلاء الفرسان من ظلم ويبدو أنهم كانوا مثله بلغوا من العمر عتيا فوضعوا فى المؤخرة. على أن فى شكوى ابن النقيب ما يدل على أن فرسان المقدمة إنما كانوا يختارون من أصلب الجنود وأعتاهم، إذ كانوا هم وغيرهم يعرضون، ويختارون فى أثناء العرض وبعد الاختبار، وهو لذلك يقول إنهم جردوهم لينظروا إلى أى حد هم سيوف قاطعة فلما لم يقطعوا ردوهم إلى الأغماد أو إلى المؤخرة، ويلقى التبعة على البغال التى ركبوها، فإنها


(١) القطاعة: النحاتة كالبراية.
(٢) براذن جمع برذون: بغل ضخم.

<<  <  ج: ص:  >  >>