للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرّوى للقلوب الصّادية (١) ريّا، فياله ناظما فصيحا مفلقا جريّا (٢)». وحقا شعره غاية فى السلاسة والعذوبة، وهى ظاهرة عامة تلاحظ دائما فى شعر المصريين، كما يلاحظ عندهم على الأقل حتى زمن ظافر أنهم لا يتصنعون للبديع ومحسناته المعقدة، قد تأتى عندهم وقد يستخدمونها أحيانا ولكن فى خفة ورشاقة. ودائما تلقانا عند ظافر العذوبة والرقة على نحو ما نرى فى مثل قوله متغزلا:

يا ساكنى مصر أما من رحمة ... فيكم لمن ذهب الغرام بلبّه

أمن المروءة أن يزور بلادكم ... مثلى ويرجع معدما من قلبه

وهما بيتان فى منتهى السهولة، وكان ينفذ كثيرا إلى صور طريفة مبتكرة، وقد يبعد فيها حتى لتصبح كأنها رؤى حالمة على شاكلة قوله:

لئن أنكرت مقلتاها دمه ... فمنه على وجنتيها سمه

وها فى أناملها بعضه ... دعته خضابا لكى توهمه

وواضح أنه كان عند ظافر حظ من الخيال المغرق فى الوهم إغراقا يروع قارئه، وسننشد له قطعة من غزله فى الفصل التالى، ونكتفى بصورة واحدة من صورة الحالمة العجيبة لندل على هذه المقدرة البارعة، وهى صورة وصف فيها الهرمين وأبا الهول وصفا لم يقع لشاعر من قبله ولا من بعده، يقول:

تأمّل بنية الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب

كعمّاريّتين على رحيل ... لمحبوبين بينهما رقيب

وماء النّيل تحتهما دموع ... وصوت الريح عندهما نحيب

وهى صورة مركزة لمشهد واسع كبير استحال إلى هذه الرؤيا الحالمة، فالهرمان كأنهما عماريّتان أو هودجان هرميا الشكل لمحبوبين بينهما أبو الهول وكأنه رقيب، يشهدهما ساعة الوداع، وهما يذرفان الدمع مدرارا، ويهمى تحت أقدامهما نهرا فياضا كبيرا هو نهر النيل، والريح من حولهما تنتحب وتئن أنينا لا ينقطع. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن ظافرا كان أبرع شاعر عرفته مصر زمن الدولة الفاطمية.


(١) الصادية: الظامئة.
(٢) جريا: جريئا.

<<  <  ج: ص:  >  >>