للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعاذل محتفل ... مجتهد فى عذلى

يلومنى فى ظبية ... مخلوقة من كحل

إن السّواد علّة ... من نور هذى المقل

والحجر الأسود لم ... يخلق لغير القبل

والقار-مذ كان-وعا ... ء السّلسبيل السّلسل

فقد دافع عن تلك الجارية دفاعا بديعا. إذ جعلها مخلوقة من الكحل الذى تزدان به الحسان فى عيونها، بل جعلها مخلوقة من سواد العيون الذى تبصر به من حولها النور المنبثق فى الكون، وإنه ليذكر الحجر الأسود وإكباب الحجاج على تقبيله، كما يذكر القار أو القطران واتخاذه فى دعم الجدر لآنية الماء العذب. وهو ظرف بالغ من ابن قادوس، ظرف نعرفه دائما للشعراء المصريين. وكانوا يسندون هذا الظرف بكثير من الصور الخيالية المبتكرة، وقد يبالغون فى وصف هيامهم مبالغة بعيدة على نحو ما نقرأ للمهذب بن الزبير (١):

إذا أحرقت فى القلب موضع سكناها ... فمن ذا الذى من بعد يكرم مثواها

وما الدمع يوم البين إلا لآلىّ ... على الرّسم فى رسم الديار نثرناها (٢)

وما أطلع الزّهر الربيع وإنما ... رأى الدّمع أجياد الغصون فحلاّها

ولما وقفنا للوداع وترجمت ... لعينى عما فى الضمائر عيناها

بدت صورة فى هيكل فلو انّنا ... ندين بأديان النّصارى عبدناها

وهو يشكو من النار التى دلعتها صاحبته فى فؤاده، ويقول لها إنه مسكنك فإذا لم تبق عليه فأين يكون مثواك، استعطاف واسترحام، فقلبه ملئ بها فتونا بل نارا موقدة، وقد أزمعت البين والفراق وهو ينثر دموعه نثرا. ويمتد به الخيال فيظن أن الندى العالق بغصون الأشجار دموعه، ويعلن سحرها له وشغفه بها، وكيف يعبث جمالها بفؤاده، حتى لتبدو له وكأنها صورة فى هيكل تقدّم لها القرابين والتراتيل، ويوشك أن يعبدها كما يعبد النصارى المسيح. ونحس عند المهذب نقلة لشعر الغزل المصرى، إذ يستحيل وجدا وصبابة ورقة وخفة من مثل قوله (٣):


(١) معجم الأدباء ٩/ ٦١.
(٢) على الرسم: على العادة.
(٣) الخريدة ١/ ٢١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>