للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقصيدة على هذه الشاكلة تسيل رقة وعذوبة، حتى مع قوافيها الذالية، وتملأ صوره النفس بهجة، فهذا الرشأ أو الظبى الجميل الغرير يرسل سهامه وهى سهام حقيقية تنفذ إلى حبّ القلوب وسويدائها، ويخال درّا ملء فمها ويتساءل من نظمه فى هيئته البديعة، أما ما حوله من رضاب أو ريق فخمر حقيقية ويتساءل من النباذ الذى صنع هذه الخمر العجيبة، ويشتد به العجب وهو ينظر إلى قامة صاحبته واستوائها الرائع، ويتساءل أى فولاذ صلب اتّخذ منه سنان لحظها المرهف القاطع النافذ إلى الأفئدة. وإن جسد صاحبته ليذوب رقة ما بعدها رقة ونعومة ما تماثلها نعومة، حتى ليظن كأن اللاذ أو الحرير الذى تلبسه ينبو عليه لشدة لطفه ورهافته. وله يتغزل موجها الخطاب إلى معاتبه فى حبه وتهالكه فيه (١):

عتت ولكننى لم أع ... وأين ملامك من مسمعى

وما قدر عتبك حتى يزيل ... غراما تمكّن من أضلعى

ومادام لومك إلا وأن‍ ... ت تقدر أنّ جنانى معى

مضى كى يودّع سكّانه ... غداة الفراق فلم يرجع

فؤادى فى غير ما أنت فيه ... فخذ فى ملامته أودع

والقطعة تموج برقة الحسّ ولطفه إلى أبعد حدود الرقة واللطف اللذين يشتهر بهما أهل القاهرة من قديم، وليس فيها لفظة غريبة بل كأنه تعمد أن يختار ألفاظها أقرب ما تكون إلى لغة الحياة القاهرية اليومية. ولا نبعد إذا قلنا إنها تعد هى ونظيراتها عند ظافر مقدمة للغزل الوجدانى الصافى الذى سنعرضه عند ابن النّبيه ومعاصريه. وهو يقول لصاحبه فى القطعة بمنتهى الرقة والتلطف كفى عتابا فقد سلبت محبوبتى عقلى وسمعى، وملك حبها جنانى، بل لقد مضى وراءها منذ الفراق ولم يعد. فأنا لا أعقل ولا أسمع شيئا مما تقول، ويتلطف إليه غاية اللطف حين يترك له الخيرة فى أن يستمر فى لومه أو يكف عنه، وعادة المحبين أن يعنفوا بلائميهم فى الحب، وظافر لا يعنف بل يتلطف فى ود رقيق.

وربما كان من تتمة الرقة فى غزل الشعراء المعاصرين لظافر أن نجد ابن قادوس الدمياطى يتغزل بجارية سوداء، محاولا بكل ما استطاع أن يرد عنها ما يظنّ من قبح السواد، يقول (٢):


(١) الخريدة (قسم شعراء مصر) ٢/ ٦
(٢) الخريدة ١/ ٢٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>