للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويلقانا فى أوائل أيام صلاح الدين الأيوبى على بن الدباغ الإسكندرى، ومن بديع ماله فى الغزل أبياته المشهورة (١):

يا ربّ إن قدّرته لمقبّل ... غيرى فللمسواك أو للأكؤس

ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا ربّ فليك شمعة فى المجلس

وإذا قضيت لنا بعين مراقب ... فى السرّ فلتك من عيون النّرجس

وابن الدباغ يصور فى أبياته أنانية المحب وكأنه يحب نفسه كما يحب محبوبته، بل هو يرى فيها ظلال نفسه، ولذلك يتمنى لها ما يتمنى لنفسه من أن لا يقبّل شفتيها سوى المسواك للوضوء والأكؤس أو الأكواب للشراب، وأن لا يصحبهما ثالث إلا أن يكون شمعة تضئ المجلس، وإذا كان لا بد من عين لرقيب فلتكن من عيون النرجس.

وكان القاضى الفاضل وزير صلاح الدين يجنح إلى استخدام المحسنات البديعية وإلى صور مختلفة من التكلف، وكان قد نشأ بمصر وتنفس فى حياتها الأدبية ولعله لذلك يؤثر من حين إلى حين السهولة فى غزله وأن يمنح من المعين المصرى العذب كقوله (٢):

يا طرف مالك ساهدا فى راقد ... يا قلب مالك راغبا فى زاهد

من يشترى عمرى الرخيص جميعه ... من وصلك الغالى بيوم واحد

عاتبته فتورّدت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد

والقطعة مكتظة بالطباق ولكن لا نكاد نحسه، لأن الألفاظ متداخلة متواصلة، وهو يصور فيها انصراف المحبوبة عنه، بينما هو واله بها واجد، وعاتبها فتضرجت وجناتها بالخجل، غير أنها ظلت منصرفة عنه لا تلين له ولا تعطف عليه، ومن غزله البديع قوله (٣):

ترى لحنينى أو حنين الحمائم ... جرت-فحكت دمعى-دموع الغمائم

وهل من ضلوع أو ربوع ترحّلوا ... فكلّ أراها دارسات المعالم

لقد ضعفت ريح الصّبا فوصلتها ... فمنّى لا منها هبوب السّمائم

وهو ترداد طريف، فهو لا يدرى أيحاكى السحاب فى قطره المنهل حنينه الملتاع أو هو يلبى


(١) الخريدة ٢/ ١٣٣ وخزانة الأدب للحموى (طبع مطبعة بولاق) ص ٢٤٦.
(٢) الخزانة ص ٢٤٧.
(٣) الخزانة ص ٢٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>